في شارع اليرموك، أحدّ أكثر شوارع مدينة غزة ازدحامًا، يقبع محمد المطوق داخل خيمة صغيرة، محاطًا بأجزاء معدنية صدئة، وروائح الكاز العالقة في الهواء. بين يديه، بابور كاز أعيد إحياؤه بعد سنوات من النسيان.
يُركِّز المطوق على تنظيف رأس البابور بإصرار، رغم عدم وجود قطع غيار متوفرة. "كل هذا الصدأ يعيق عملها"، يقول وهو يفرك القطعة بقطعة قماش قديمة. يُردف: "لكن لا خيار أمام الناس سوى العودة إلى ما تركوه منذ عقود".
وَرث المطوق (32 عامًا) هذه المهنة عن والده، الذي كان يعمل في إصلاح بوابير الكاز قبل أن تختفي هذه المهنة تدريجياً مع انتشار الغاز الطبيعي مع بداية الألفية الجديدة. بعد أن عمل لسنوات في تمديد شبكات الغاز، وجد نفسه يعود إلى مهنة الأسرة القديمة، ليس حبًا فيها؛ بل لأنّ الحرب حوّلت غزة إلى مكانٍ يُعيد اختراع وسائل البقاء.
"لم أتخيل أنني سأضطر لإصلاح هذه الأجهزة القديمة مرة أخرى"، يقول بينما يحاول إصلاح بابور آخر. يُتابع: "لكن عندما انقطع الغاز، جرّاء منع دخوله بإغلاق المعابر في مارس الماضي، عجِز الناس عن إشعال مواقدهم، فأصبح هذا البابور المعدني هو المنقذ".
البابور "موقد الكاز" ذا اللون النحاسي، الذي كان يُباع كقطعة خردة تراثية، بسعرٍ لا يتجاوز 15 شيكلًا (حوالي 4 دولارات) قبل اندّلاع الحرب الإسرائيلية الحاليّة على قطاع غزة. أصبح ثمنه اليوم يُراوح بين 500 و800 شيكل (130-230 دولارًا)، أيّ أنّه تضاعف بأكثر من 42 مرة مقارنةً بالسعر الأصلي.
وهو سعرٌ باهظ في قطاعٍ لم يعد الفقر فيه مجرد ظاهرة، بل واقعًا شاملاً: 100% من السكان تحت خط الفقر، و80% منهم عاطلون عن العمل. أرقامٌ تجعل اقتناء البابور بثمنه الحالي أمرًا صعبًا إلا لنخبةٍ صغيرة، بينما تغرق الأغلبية في دوامة الغلاء الفاحش وشُح السيولة. والمفارقة الأقسى أن هذا الجهاز الذي كان رمزاً للفقر في الماضي، صار اليوم علامة على الغنى في زمن الحرب.
يقول المطوق: "أصبحت الناس اليوم تبحث عن أي بابور قديم في بيوتها أو لدى جيرانها. بعض العائلات أحضرت بوابير كانت مخزنة لديهم منذ الحرب الإسرائيلية عام 2014، وجئنا نصلحها كي تعمل من جديد".
لكنّ إصلاح البابور ليس أمرًا سهلًا تحت الظروف الحالية التي تعصف في قطاع غزة. بعض القطع، مثل الفتائل والرؤوس النحاسية، لم تعد تُنتج؛ مما يجعل الإصلاح مؤقتًا في أحسن الأحوال.
"أحيانًا نضطر لاستخدام قطع بدائية، أو نعيد تدوير أجزاء من بوابير أخرى"، يضيف المطوق. "لكن حتى هذه الحلول هي طارئة ولا تدوم طويلًا بسبب عدم توفر قطع غيار في القطاع وصعوبة إدخالها في ظلّ استمرار الإغلاق".
في خيمةٍ مجاورة، تجلس نعمة عبد العال (62 عامًا) أمام بابور كاز قديم، تتحكم بقوة لهيبه باستخدام مقبض صغير. "تعلمت استخدامه منذ كنت طفلة"، تقول بينما تُقلِّب حساء العدس، تتابع: "لكني لم أتخيل أنني سأعود إليه بعد كل هذه السنوات".
بالنسبة لعبد العال، البابور أفضل من الحطب، الذي يحتاج إلى وقتٍ أطول في الطهي ويُنتج دخانًا خانقًا. توضح قائلة: "العدس كان يأخذ نصف ساعة على الحطب، أما هنا فلا يحتاج أكثر من عشر دقائق".
لكنّ المشكلة تكمن في أنَّ البابور نفسه أصبح سلعة نادرة. "الكثير من الجارات يطلبن مني استخدام بابوري لأنهن لا يملكن واحدًا"، تقول. "لكن البابور يحتاج إلى كاز بقيمة 20 شيكل يوميًا، ناهيك عن الصيانة المستمرة وهي أكبر عيب في استخدامه خلال هذه الظروف فقطع الغيار شبه معدومة".
وحول حجم الإقبال على استخدام البوابير في قطاع غزة، فيتضح أن الكثير من الأسر تستخدمه، وقد ذكر مركز الميزان لحقوق الإنسان في سياق تقريرٍ سابق أن 55% من الأسر تشتري الكاز بشكل أسبوعي، وهو ما يدعم مسح ميداني لـ "شبكة المنظمات الأهلية" أجرته في يونيو 2024، تبين خلاله أنّ 68% من العائلات في الخيام تعتمد على البوابير.
ونتيجة لذلك، لم تدفع الأزمة الناس فقط إلى إصلاح البوابير القديمة المتوفرة لديها، بل اقتناء الجديد منها وحوّلت بعض الحرفيين إلى مهن جديدة تمامًا. فسامي جودة (35 عامًا) من دير البلح وسط قطاع غزة، واحد من الذين تحولوا إلى تصليحها بعد أن فقدوا أعمالهم الأصلية.
"كنت أصلح أفران الغاز، لكن منذ أن انقطع الغاز، لم يعد هناك طلب عليها"، يقول جودة، الذي وجد نفسه فجأة عدد م الزبائن يطلبون إصلاح بوابيرهم. "في البداية، كنت أتعلم بالتجربة والخطأ. لكن الآن صار لدي خبرة كافية لأعرف كيف أُصلح معظم الأعطال".
يتفق جودة مع سابقه بأنّ مهمة إصلاح البوابير هي وقتية فقط، ويُقرّ بأنّ الإصلاحات ليست دائمة. "بدون قطع غيار أصلية، كل إصلاح هو مجرد حل مؤقت"، يقول. "لكنّ الناس لا يملكون خيارًا آخر".
لم يتوقف الأمر في مجال بوابير الكاز إلى تصليحها فقط، فقد ذهب يزيد مشتهى (29 عامًا)، إلى أبعد من ذلك وهي صناعة البابور يدويًا ومحليًا تحت ظروف الحرب ومن المواد المحدودة المتاحة. وبعد أن كان يعمل في صناعة أفران الغاز، صار يصنع بوابير هوائية بدائية تعمل على مُخلفات البلاستيك أو الزيت المحروق.
يشرح مشتهى طريقة صناعته البدائية للبوابير بقوله: "الفكرة بسيطة: نستخدم موتور مروحة وبطارية لإشعال النار". ويصنع هذا الرجل يوميًا ما بين 20 إلى 30 بابورًا. لكنّ المعضلة ذاتها تُعيق عمله، يقول: "المشكلة أنّ المواد الخام أصبحت شحيحة للغاية، لذلك اضطررت لرفع سعر بابوري الذي أصنعه يدويًا من 180 شيكلًا إلى 250".
وراء كل هذه الحكايات، تكمن المعضلة الأساسية وهي غياب غاز الطهي منذ أشهر بسبب إغلاق الاحتلال الإسرائيلي للمعابر. وفقًا لمراقبين، فإنّ السواد الأعظم من السكان يعتمدون على الحطب أو البوابير. "لو فُتحت المعابر ودخل الغاز، سيعود الناس إلى مواقدهم العادية"، يقول مشتهى. "لكن مَن يعرف متى سيحدث ذلك؟".
في غزة، لم يعد السؤال هو "كيف نعيش؟"، بل "كيف ننجو اليوم؟". والبوابير القديمة، برغم ضجيجها ورائحتها الكريهة، أصبحت جزءًا من إجابة هذا السؤال. لكنها إجابة مؤقتة، مثل كل شيء هنا. فالحرب لا تزال مستمرة، والمعابر مُغلقة، والغاز لا يصل. وفي وسط كل هذا، يستمر ضجيج بوابير الكاز، كتذكيرٍ صاخب بواقعٍ لا يريد أحد أن يعيشه، لكن الجميع مضطرون إليه.
موضوعات ذات صلّة:
بابور الكاز في قطاع غزة