في شقة شبه معتمة بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، تجلس أم محمد (32 عاماً) تُحدّق في هاتفها الخالي من أي إشارة اتصال، بينما يبكي طفلاها من الجوع. "لا أعرف إن كان أهلي في شمال القطاع أحياء أم لا... لا أستطيع حتى طلب المساعدة لو سقطت قذيفة علينا"، تقول المرأة التي فقدت زوجها في قصفٍ جوي قبل عدة أشهر.
هذه المشاهد تتكرر في كل زاوية من قطاع غزة، الذي تحوّل إلى "سجن معزول" بعد أن قطعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي آخر خط اتصال ثابت وبري بالعالم الخارجي، وفقاً لهيئة تنظيم الاتصالات الفلسطينية.
القرار الذي يُوصَف بـ"العقاب الجماعي" يأتي في خضم هجوم إسرائيلي متصاعد خلّف حتى منتصف الأسبوع الحالي أكثر من 56 ألف ضحية، وفق وزارة الصحة الفلسطينية، التي توقفت مؤقتاً عن تحديث بياناتها بسبب الانقطاع المزدوج للاتصالات والانترنت.
ويلجأ بعض السكان لاستخدام الشرائح الإلكترونية (Esm)، من أجل الاتصال بالأنترنت وبخاصة الطلبة والعاملين عن بعد وكذلك المراسلين الصحفيين، فيما غالبية السكان يعانون العزلة.
يتهم مركز الميزان لحقوق الإنسان، في بيانٍ صحفي، إسرائيل بـ"حجب الحقائق ومنع توثيق الجرائم" عبر قطع الإنترنت، مؤكداً أن الخطوة "تُمهّد لارتكاب مجازر بعيداً عن أعين الإعلام".
البيان، الذي حصلت آخر قصة، على نسخة منه، أشار إلى استهداف "آخر خط فيبر رئيسي" في غزة، ما شلّ كافة القطاعات الحيوية، وترك مليوني مدني تحت القصف بلا وسيلة للاستغاثة.
"نحاول إصلاح الكابلات منذ أشهر، ولكن الجيش الإسرائيلي يمنع طواقمنا من الوصول"، يقول مهندس في قطاع الاتصالات فضّل عدم ذكر اسمه خوفاً من الملاحقة.
يشير المهندس إلى أن الاحتلال يمنع وصول الطواقم الفنية إلى مواطن الخلل والتي في الغالب تكون عبارة عن مناطق أنشطة عسكرية، من أجل إصلاح الأعطال. وأشار إلى أن عمليات اصلاح الأعطال التي تتم بين حين وأخر، هي أعمال مؤقته وتؤدي الخدمة في حدودها الدنيا، نظرا لحجم الأعطال وانقطاع الخطوط الأرضية وعدم السماح بإدخال المعدات اللازمة لإصلاح البنية التحتية.
في الغضون يُعلّق الناشط الحقوقي بلال البكري: "هذه ليست المرة الأولى، لكنها الأسوأ... حتى الصحفيون يعتمدون الآن على شرائح اتصال تُعرّض حياتهم للخطر، كي يتمكنوا من نقل الأخبار إلى وكالاتهم ووسائلهم في العالم".
يُشكل انقطاع الانترنت المتكرر عن قطاع غزة منذ بدء الحرب الإسرائيلية، عقاباً بالنسبة للسكان المدنيين المحاصرين في القطاع تحت وطأة القصف والتدمير. كما وتسهم عدم قدرة سكّان غزّة على الوصول إلى الإنترنت ووسائل الاتصال بشكلٍ دائم في تعزيز حالة الخوف وعدم اليقين التي يعيشونها، إذ لا يستطيعون الاطمئنان على أحبّائهم، أو التواصل معهم، أو الوصول إلى المعلومات المنقذة للحياة، أو توثيق انتهاكات حقوق الإنسان والأعمال العدائية التي تحدث على أرض الواقع.
ووفق دراسة أجريت حول كيفية قطع إسرائيل الانترنت عن غزة، صدرت في نوفمبر 2023، فإنه ومنذ 31 تشرين الأول/أكتوبر، يواجه 15 مزوداً لخدمات الانترنت يعملون في غزة من أصل 19 انقطاعاً تاماً في خدمات الهاتف المحمول والنطاق العريض، وكانت كلا من الشركات الأربع المتبقية تعاني من نسب مرتفعة ومتفاوتة من تعطيل في الخدمات، ما أثّر على الملايين من الأشخاص.
وطبقاً للدراسة، فقد أثّرت عمليات الانقطاع التام بشكلٍ مباشر على حوالي 411 ألف شخص يستخدمون هذه الخدمات في غزة. فيما يشير المركز الفلسطيني للإحصاء خلال الربع الأول من العام 2022، أن حوالي 90% من الأسر في قطاع غزة لديها أو لدى أحد أفرادها إمكانية النفاذ إلى خدمة الإنترنت في المنزل، وهذا يرجح بأن نسبة سكان غزة الذين تأثروا بانقطاع الانترنت، ربما أكثر من الرقم الآنف الذي أشارت إليه الدراسة.
وارتبطت أزمة انقطاع الانترنت بالعمليات العسكرية البرية لمحافظات قطاع غزة الخمس، إذ إنه كلما كان جيش الاحتلال يجري تدميراً على الأرض كلما كان الوصول إلى الانترنت أمرًا أعقد بفعل تدمير البنى التحتية المدنية للاتصالات ومنها الخطوط الواصلة للإنترنت. ومع مرور الوقت توقفت -على الأقل- في شمال غزة كافة شركات الانترنت عن العمل بما في ذلك الشركة الأم (شركة الاتصالات الفلسطينية)، والتي استعادت قدرتها على تقديم الخدمات بدءاً من إبريل 2024.
يشكل هذا الأمر من المنظور القانوني، تعدياً على حق من حقوق الإنسان، وفق ما أقرّه مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في يوليو 2016، باعتبار الانترنت حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان.
في مستشفى ناصر في خان يونس جنوب قطاع غزة، يُشير الطبيب علي أبو زيد (*) إلى جهاز إنعاشٍ توقّف عن العمل بسبب انقطاع الكهرباء. "لا نستطيع حتى طلب المساعدة من المنظمات الدولية... الجرحى يموتون بسبب عدم التنسيق"، يقول أبو زيد بينما يُحاول فريق الطبّي إنقاذ طفلةٍ مصابة بحروق شديدة.
جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني حذّرت في بيانٍ من "انهيار كامل" لخدمات الطوارئ، فيما قالت منظمة "أطباء بلا حدود" إن فرقها "تعمل في الظلام" بعد فقدان الاتصال مع 3 عيادات ميدانية.
الانقطاع لم يقتصر على الخدمات الطبية. أحمد عبد الله (16 عاماً) (*)، طالب في الصف العاشر، كان يُجرّب اتصالاً عبر "شريحة إلكترونية" باهظة الثمن على سطح منزله المُهدّم جزئياً.
"امتحاناتنا عن بُعد... إذا لم نتواصل، سنُجبَر على إعادة السنة"، يقول الفتى الذي اضطر لبيع حاسوبه من أجل شراء شوال من الدقيق، بعد نفاذ مخزون الطحين واغلاق الاحتلال للمعابر للشهر الثالث على التوالي ومع إدخال المساعدات.
المجتمع الدولي يبدو غائباً عن المشهد. الأمم المتحدة دعت إلى "وقف عزل غزة"، بينما طالب مركز الميزان الأطراف الموقعة على اتفاقيات جنيف بالتحرك. لكن بالنسبة لأم محمد، كل ما تريده هو "اتصالٌ واحد" لتطمئن على أطفالها. "لو متُّ الليلة، لن يعرف أحد"، تقول بينما يُسمع في الخلفية صوت طائرة حربية تُحلّق فوق رأسها.
(*) أسماء مستعارة
انقطاع الانترنت عن غزة