كانت عيناه الصغيرتان تحدّقان في الكيس الوردي الشفاف بين يديه، ذلك الكيس الذي كان من المفترض أن يحتوي على وجبته الخفيفة المُسلّية والمُفضلة، من حبيبات "الشيبس" المقليّة.
تذوّق الطفل آدم مازن (9 أعوام) حبةً واحدة، ثم بصقها فورًا على الأرض. عقد حاجبيه، وشمّ الكيس بانزعاج، قبل أن يركض نحو والدته وهو يحتج: "ماما، رائحته سيئة تُشبه الطحين الأخير الذي اشتريناه!". لم تكن رائحة الشيبس وحدها هي المشكلة؛ بل طعمه الذي يُشبه خليطًا من الطحين الفاسد والرمل.
على الفور، تخلّصت الأم من الكيس وألّقت به في سلة المهملات، لكنَّ السؤال الذي بقي عالقًا: كيف وصل الأمر إلى بيع شيبس للأطفال مصنوع من مواد غير صالحة للأكل والاستخدام الآدمي؟
في قطاع غزة، حيث يُغلق الاحتلال الإسرائيلي المعابر وتُحاصَر المساعدات الغذائية، تحوّلت أبسط متطلبات الأطفال إلى سلع نادرة أو خطرة. فمنذ مارس الماضي، شدّد الاحتلال الإسرائيلي الحصار، ليتحوّل دخول الطحين إلى عملية معقدة، حيث تُصرّح بكميات لا تكفي سوى جزء ضئيل من السكان، في وقتٍ يُعاني فيه أكثر من 30% من سوء التغذية الحادّ، وفقًا للأمم المتحدة.
في ظلّ هذه الظروف، ظَهرت "بدائل" محليّة لتوفير مُسلّيات لا سيما شيبس الأطفال في الأسواق، صنعتها مصانع صغيرة باستخدام طحين فاسد، دون أيّ رقابة تُذكر على عملية التصنيع التي يبدو بالمعاينة الميدانية أنها يشوبها الكثير من المخاطر الصحية.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يُخدَع فيها الطفل آدم بأكياس الشيبس الملونة. في مرة سابقة، اشترى كيسًا تفوح منه رائحة الصابون، وهو ما علّق عليه الصغير ببراءة: "يحاولون إخفاء على رائحة الطحين الفاسد فوضعوا الصابون حتى لا نعرف!".
لم يُدرك هذا الطفل خطورة الأمر، فحاول إخفاءه عن والديه بتغطية الطعم ببهارات الشطة، لكنَّ النتيجة كانت إصابة حادّة بالإسهال والقيء، وفقدان 3 كيلوغرامات من وزنه الضئيل أصلاً.
تقول أم آدم، وهي واحدة من آلاف الأمهات اللواتي يُجهدن أنفسهن لإطعام أطفالهن وسط أزمة الغذاء الخانقة: "ليس لدي ما أسدّ به رمق أطفالي سوى ما أصنعه لهم من طعام، فيما تعتمد على طحين المعكرونة لصنع الخبز، ولا يتجاوز ما تستطيع توفيره رغيفاً واحداً يومياً لكل فرد.
تُضيف الأم بقلق: "يبقى الأولاد جوعى فيبحثون عن أيّ مُسلّيات تسدّ جوعهم، وما يقلقني حقاً هو ما يشتريه أطفالي من البسطات، فحتى أكياس الشيبس صارت مصدراً للخطر في هذه الأيام".
المشكلة لا تقتصر على هذا الطفل؛ فوفقًا للأمم المتحدة، يعاني أكثر من مليون شخص في غزة من نقص الغذاء، بينهم 10 آلاف طفل مصابون بسوء التغذية. ارتفعت هذه النسبة من 1.2% قبل الحرب إلى 31.1% اليوم، في مؤشرٍ صارخ على تدهور الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة.
في حيّ الجلاء وسط مدينة غزة، يقف الطفل براء أحمد (7 أعوام) مع أصدقائه يتحلّقون حول بسطة تبيع أكياس الشيبس بألوان زاهية. اختار كيسًا أزرق، لكن فرحته لم تدم طويلاً. بعد ساعات، أصيب بإسهالٍ حادّ.
تقول والدته، "نحن نتناول أطعمة لا فائدة منها، كلنا مصابين بسوء التغذية والهزال، وعندما أُصيب ابني بالإسهال لم أجد عصائر ولا طعام صحي أقدمه له"، تُردف وهي تمسح جبينه: "حتى لو منعناهم، سيجدون طريقة لشرائه. الجوع والحرمان يجعلان هذه الأكياس مغناطيسًا لهم".
عندما عاد الطفل إلى البائع شاكيًا، رفع الأخير كفيه عاجزًا: "ما عندي غير هادا، بس لو بدك جرِّب الأكياس البيضاء". كانت تلك البيضاء تُباع بثمن أغلى (2 شيكل)، لكنها لم تكن أفضل حالاً. فحصها الطفل بأنفه، ثم ابتعد خائبًا.
الباعة أنفسهم ليسوا سوى حلقة في سلسلة معقدة. أحدهم، فضّل عدم ذكر اسمه، قال: "نشتري كل مرة من موزع مختلف، وبالطبع لا يوجد على المُنتجات أيّة أرقام أو بيانات حول الجودة أو تاريخ الصلاحية".
وهذا بالفعل ما تحققت منه مراسلة "آخر قصة" في زيارة ميدانية إلى عدد من الأسواق في مدينة غزة، حيث عثرت على أشكال مختلفة من المُسليات وجميعها مُعبئة بأغلفة بيضاء شفافة لا تحمل أيّ علامة تجارية للدلالة على الجهة المُصنِعة أو مكان التصنيع ولا حتى مكوناته وصلاحيته.
ويتعارض هذا الواقع مع قانون العلامات التجارية رقم (33) لسنة 1952، وكذلك مع المادة (27) من قانون حماية المستهلك، والذي ينصّ على أنّه: كل من عرض أو باع سلع تموينية فاسدة أو تالفة، أو تلاعب بتاريخ صلاحيتها، أو احتفظ بالموازين أو المكاييل غير المعتمدة من الآلات غير الصحيحة المعدة لوزن السلع أو كيلها في الأماكن المحددة في المادة (8) من هذا القانون، يعاقب بالسجن لمدة لا تزيد عن عشر سنوات أو بغرامة لا تتجاوز عشرة آلاف دينار أردني أو ما يعادلها بالعملة.
غير أنّه على أرض الواقع، يبدو تنفيذ أحكام هذا القانون مجرد أمور شكليّة لاسيما في ظلّ استمرار الحرب وسيطرة ما يُمكن تسميته فوضى السوق، في ظلّ انعدّام كافة أدوات الرقابة الفاعلة.
خبيرة التغذية ميرفت حماد تقول: "أكياس الشيبس في غزة لم تعد مجرد وجبات خفيفة، بل أصبحت خطر حقيقي مصنوع من الطحين الفاسد المحتوي على سموم الأفلاتوكسين" لتصنيعه من مواد غير صالحة للاستهلاك الآدمي. وتوضح أن تناولها يسبب تسمماً غذائياً حاداً وضعف مناعة، مع تأثيرات طويلة المدى على النمو الجسدي والعقلي للأطفال.
وبحسب حمّاد، يُسبٍب تناول الأطفال لهذه المنتجات تسممًا غذائيًا حادًا، وضعف مناعة، وتأخر في النمو". وتبدأ الأعراض باضطرابات هضمية تشمل التقيؤ والإسهال والتهابات الأمعاء، لكنَّ عواقبها طويلة الأمد في حال استمرار تناولها؛ ما قد يُؤثر على النمو الجسدي والعقلي لدى الأطفال.
وبينما يعجز الأهالي عن توفير الغذاء الآمن، تكشف الأرقام الصادمة عن مأساوية الوضع، إذ تفيد بأنّ 15.6% من الأطفال دون الثانية يعانون سوء التغذية الحاد، مع تسجيل 11 ألف حالة جديدة منذ بداية العام.
المشاهد اليومية للأطفال المرضى ليست سوى البداية، فتحذيرات منظمة الصحة العالمية تنذر بتحول 71 ألف طفل إضافي دون الخامسة إلى ضحايا سوء التغذية بحلول نهاية 2025، في مشهد يجسد كيف تحوّلت الأزمة الإنسانية إلى حرب مزدوجة: ضد الجوع القاتل، وضد "الغذاء" الذي صار سمّاً بطيئاً.
وفي ظلّ غياب الرقابة الفعّالة على الأسواق، تُوجِّه الطبيبة حماد نصيحة عاجلة للأهالي: "علينا مراقبة ما يستهلكه أطفالنا بدّقة، والابتعاد عن أيّ منتجات غذائية مجهولة المصدر أو غير معتمدة، خاصّة في هذه الظروف الاستثنائية التي تمر بها غزة".
وتُؤكد حمّاد أنّ هذه الإجراءات الوقائية أصبحت ضرورة حتمية لحماية صحة الأطفال في بيئة تزداد فيها المخاطر الصحية يوماً بعد يوم، كما أنّ توعية الأطفال أنفسهم بأبسط قواعد السلامة الغذائية أصبحت جزءاً من استراتيجية البقاء في غزة اليوم.
يقر محمد بربح، مدير الرقابة في وزارة الاقتصاد، في مقابلة سابقة بأنّ فرق الوزارة صادرت "كميات محدودة" من الطحين الفاسد، لكنّه برر ذلك بقوله "معظمه يباع سرًا" وهو ما يُشير إلى أنّ الكثير من الدقيق يُباع بشكل غير قانوني. أما فيما يتعلّق بالإجراءات الرقابية المنوط بهم القيام فيها على طرق تصنيع وبيع "الشيبس" فقد تعذر إجراء المقابلة مع بربخ لعدم ردّه.
وعلى صعيدٍ مُشابه، تُعاني وزارة الصحة في قطاع غزة من شبه انهيار في نظام الرقابة بعد استهداف الاحتلال الأجهزة الحكومية؛ ما أدى إلى انتشار مواد غذائية مجهولة المصدر في الأسواق، وكان الأطفال أكثر الفئات تضرراً من هذه الأزمة.
وفي غياب الرقابة، تحوّلت أكياس الشيبس إلى مثال صارخ على كيف يُترك السكان، خاصّة الأطفال، أمام خيارين: الجوع أو التسمم.
موضوعات ذات صلّة:
الطحين الفاسد على موائد الجائعين
غياب الرقابة والمجاعة تعززان انتشار الأطعمة المغشوشة
الحرب عطلت القوانين: المستهلكون ضحايا فوضى السوق
سكان غزة يضطرون لاستخدام الطحين الفاسد
طحينٌ مخلوط بالرمل يكسر فرحة الجوعى برغيفٍ ساخن!
شيبس مصنع خلال الحرب في غزة