كُفتة العدس.. حساء البقاء تحت وطأةِ الجوع

كُفتة العدس.. حساء البقاء تحت وطأةِ الجوع

في زِقاق شارع الوحدة غرب مدينة غزة، داخلَ خيمةٍ بسيطةٍ مصنوعةً من القُماش المُهترئ، تتوسطها سيدةً في منتصفِ الأربعينات، ترتدي ملابس منزلية متواضعة، وغطاءَ رأسٍ بسيط. تجلسُ على الأرضِ أمامَ موقدٍ صغيرٍ مصنوعٌ من الحجارة، تُشعلُ فيه نارًا باستخدام الحطب. تُمسك بملعقةٍ خشبيةٍ كبيرة، وتُقلب خليطًا من العدس والبطاطس في قدرٍ معدني قديم.

تُقلَّب تغريد شامية (45سنة)، العدس على نارٍ هادئة، حولها، بينما يجلس أطفالها عمر وسلمى بأعمارٍ متفاوتة، تتراوح بين ثلاث سنوات وعشر سنوات، يراقبون والدتهم بعيونٍ مليئةٍ بالترقُب والجوع.

تتصاعد رائحةُ العدس المطهوّ على نار الحطب. رائحةٌ بسيطةٌ كفيلةٌ بأن تحمل في ثناياها حكايةً عن جوعٍ يُهزم بملعقة، وعن أمٍ تُحوِّل البقول إلى قصيدة صمود. 

 شامية، الأرملة التي فقدت زوجها في الحرب وهي أُم لطفلين وخريجةُ علمِ النفس، وهي تُكافح يومياً لإطعام أطفالها، بينما وجدت في العدس بديلاً للحمة المفقودة.

يسألها طفلها عمر وهو يلعب بقطعةٍ خشبية: ماما اليوم عندنا كُفتة؟ تبتسمُ شامية بمرارةٍ دافئة: إيوه يا حبيبي، وإضافة جديدة اليوم!.

وأضافت كنتُ أرى الحزنَ في عيونِ أطفالي عندما لا يجدونَ اللحم في وجباتهم. قررتُ أن أبحثُ عن بدائل، فوجدتُ وصفةِ 'كُفتة العدس'، وأضفتُ لمستي الخاصة. اليوم، أطفالي يُحبونها، ويطلبونها بالاسم.

تُعرف "كُفتة العدس" أو "الكُفتة الكدابة" بأنها وجبةٌ شعبية تعتمدُ على العدس كمكونٍ رئيسي بديلًا عن اللحم. تُحضّر عن طريق طحن العدس المنقوع مع البطاطس المسلوقة، والبصل، والتوابل، ثم تُشكل على هيئة أصابع وتُقلى في الزيت.

تقول شامية "نطحنُ العدس، ننقعهُ مع البطاطا المسلوقة، ونضيفُ البصل والتوابل، ونُشكلها كُفتةً. ونطهوها على نارِ الحطب، ونُقدمها لأطفالُنا كوجبةٍ دافئة".

همستْ شامية "بسْم الله..."، بينما تُقلّب العدس بيدين تعرفان جيداً ثقل الغياب. انفجارٌ قريب يهزّ الخيمة، فتسقط قطعة النايلون التي تُغطي النافذة المزعومة. تنظر إلى السماء عبر الفجوة، ثم تُكمِل حركاتها وكأنّها تُصلّي: "يا ربّ... اليوم عندنا كُفتة عدس، لا تُحرمني من فرحة أولادي".

بصوتٍ مليئٍ بالحسرة تقول السيدة: "في الماضي كُنا نضيفُ اللحوم جاهزةً (كفتة). اليوم العدس أصبح بديلاً عنه" تبتسمُ بأسى: "مش لأنه الأرخص، بل لأنه الخيار الوحيد".

بينما تُشير شامية إلى تلك قطعةِ القُماش المُمزقة الصغيرة التي وقعت بينما حدث الانفجار وتُتابع: كنا نعيشُ ونحلمُ ببيتٍ واسع، بمطبخٍ مليان خيرات. اليوم، بنحلم نعيش بسلام، ونطبخ وجبةٍ واحدة بدون خوفٍ من الطيارة أو القذيفة. 

وفي هذه الأثناء تُخبر شامية: بينما تُوزّع الأكل على أطفالها، نحنُ نُقاتل الجوع بالبركة... وبالقليل الذي نملكه. في غزة، لم تعد "كُفتة العدس" مجرّد طبق، بل شهادة ميلاد جديدة للحياة كلّ يوم. 

وجبةٌ تنتصرُ على الحرب، قبل أن تُطفئ شمعةُ الليل، تهمسُ تغريد في أذن طفليها: "كل لقمة فيها دعوة  لأبوكم... ولكي نعيش".

وفي المساء، وبعد أن تناول الأطفال وجبتهم، جلسوا ملتفين حول أمهم داخل الخيمة الصغيرة، يتهامسون ويضحكون بخجل وهم يحاولون نسيان أصوات القصف. أحدهم قال: "ماما، كأنها كُفتة العدس اليوم ألذ من مبارح!"، فتضحك تغريد، وترد بحنان: "يمكن لأنكم اليوم أكلتوا وأنتوا دفيانين... لما البرد والجوع يجتمعوا، كل شي بيصير مالح وباهت."   

ثم أضافت شامية بصوتٍ خافت: "بس لو ضل في عدس، يمكن نعملها كمان بكرا...". 

لكن الواقع أكثر قسوة مما يحاولون تجاهله. تغريد تعلم جيدًا أن ما تبقى من المؤن لا يكفي لأسبوع آخر، وأن عليهم تدبير أيامهم القادمة بحذر. 

في إحدى زوايا الخيمة، تقبع حقيبة صغيرة تحتوي على القليل من الطحين، وعدة أكياس من البقوليات، وبعض الزعتر والملح. 

تغريد: "كل ما بشوف الحقيبة، بحسها زي خزنة فيها أمل، بس كل ما نقص شي، بحس وكأنها بتموت شوي شوي".

حول تغريد شامية، آلاف النساء يُكرّرن نفس المعجزة: عدس بدل اللحم، حطب بدل الغاز، دموع تُخفيها الابتسامات. تقارير الأمم المتحدة تُحصي الجوع، لكنّها لا تُحصي تلك اللحظات حين تُحوّل الأمّ صحن الفقر إلى وليمة عشق.

تُظهر هذه القصة كيف أن المرأة الغزية أصبحت عماد الصمود في وجه الحصار والحرب، فهي لا تكتفي بتأمين الطعام لعائلتها، بل تسعى أيضًا للحفاظ على كرامتها وكرامة أسرتها من خلال الابتكار والإبداع في تحضير الوجبات.

والكثيرات منهُنّ اخترعنّ وصفاتٍ بديلة ليست فقط لسدِ الجوع، بل لحفظِ الكرامة.

فقد لجأت نساء غزة إلى استخدام مكوناتٍ بسيطة ومتوفرة لتحضير وجباتٍ تسدُ رُمق عائلاتهن. على سبيل المثال، قامت بعض النساء بتحضير بديلٍ لحليب الأطفال باستخدام النشا والماء والسكر، رغم معرفتهن بالمخاطر الصحية المحتملة، وذلك بسبب انعدام الحليب الصناعي في الأسواق.

كما استخدمت نساء أخريات أعشابًا برية مثل "الخبيزة" و"اللوف" لتحضير وجباتٍ تقليدية، بعد أن نفدت الخضروات من الأسواق. وقد أصبحت هذه الأعشاب مصدرًا رئيسيًا للغذاء في العديد من المناطق.

وفقًا لهيئة الأمم المتحدة للمرأة: عدد الأرامل المعيلات: حتى بداية عام 2025، فقدت 13,901 امرأة فلسطينية أزواجهن نتيجة العدوان الإسرائيلي على غزة، مما جعلهن المعيلات الوحيدات لأسرهن في ظل ظروف اقتصادية خانقة تفاقمت بفعل الحصار والدمار.

كما أشارت الهيئة إلى هناك مئات النساء الفلسطينيات أصبحن معيلات لأسرهن بعد اعتقال أزواجهن من قبل الجيش الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر 2023، ولم يتم الإفراج عنهم حتى الآن.

هذه الأرقام تسلط الضوء على التحديات الجسيمة التي تواجهها النساء في غزة، خاصةً الأرامل اللواتي يتحملن مسؤولية إعالة أسرهن في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة.

من خلال هذه الابتكارات، تُرسل نساء غزة رسالة إلى العالم: لسنا ضحايا… نحنُ نساءٌ نُقاوم بالملاعِق لا بالبكاء. نُعيد اختراع الحياة من تحت الركام، ونُحافظ على كرامتنا رغم كل الصعوبات.

 

المصدر: وكالة سوا- شروق شابط