كانت يدّ المواطنة الفلسطينية ولاء سليمان ترتجف وهي تمسك هاتفها في ذلك المساء البارد، وبينما كانت تبحث عن أنباء العائلات التي طالها القصف الإسرائيلي في جباليا شمالي قطاع غزة، وقعت عيناها فجأة على صورة لم تكن تتوقعها أبداً.
"رأيتُها ممددة على الأرض دون حجابها شعرها متناثراً عليه التراب، ملقاة بملابس المنزل ووضع لن ترغب هي نفسها أن يراها العالم فيه"، تقول ولاء بصوتٍ مبحوح. كانت تلك ابنة خالتها، لكنها لم تعد تعرفها بهذا الشكل.
في تلك اللحظة، انفجرت ولاء غضباً: "كيف تجرؤوا على نشر هذه الصورة؟ أين احترام الموتى؟، أليس هناك أخلاقيات في التصوير؟ أين الرقابة على النشر؟ كانت أسئلتها موجهة إلى المصور، إلى الناشرين، وإلى القانون الذي يُفترض أن يحمي كرامة الضحايا.
ليست عائلة ولاء فقط التي عانت من انتهاك حرمة الضحايا بهذه الطريقة. عائلات أخرى في قطاع غزة تعيش نفس المأساة، حيث يؤكد الناجون أن كرامة ضحاياهم الإنسانية تعرّضت للمساس بفعل بعض الممارسات التي تجاوزت مدونات السلوك الأخلاقي.
فيما ساهمت الأوضاع المأساوية التي تمرّ بها المنطقة في تزايد نشر الصور والفيديوهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي دون مراعاة لمشاعر الأهل، كما أدّى تعطّل القضاء خلال الحرب إلى تفاقم الانتهاكات دون وجود رادع قانوني يحمي حقوق العائلات.
المحامي يحيى محارب، يُؤكد أنَّ المُشرِّع الفلسطيني حظر الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة في المادة 32 من القانون الأساسي المعدل، وينص على أن تصوير الأشخاص دون إذنهم يعد انتهاكًا لخصوصياتهم.
ويقول إنَّ "ما حدث مع ولاء ليس خطئًا عابراً، بل انتهاك صارخ للقانون الفلسطيني الذي يحمي حرمة الجسد حتى بعد الوفاة". كما أن المادة 17 من العهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنية والسياسية تضمن حماية خصوصية الأفراد، وتُجرم نشر صور الضحايا دون موافقة.
ويُردف محارب: "أُؤكد على سلامة النية من قِبل الصحفيين/ات في تلك الظروف في التقاط مشاهد الجرائم الإسرائيلية المرتكبة بحق المدنيين العزل". لكن وفقًا للمبادئ القانونية، هناك معايير أخلاقية يجب على الصحفيين والناشطين اتباعها عند تغطية قضايا تمسّ الحياة الخاصة للأفراد، مثل عدم نشر معلومات أو صور شخصية دون الحصول على إذن مسبق من الأشخاص المعنيين.
بحسب دراسة بحثية للباحث محمد طلعت، بعنوان "أخلاقيات النشر الإعلامي في شبكات التواصل الاجتماعي أثناء الأزمات في فلسطين"، هناك واقع مزرٍ من الفوضى في نشر الصور والفيديوهات، التي أُخذت في أوقات الأزمات.
في هذه الدراسة المسحية، التي اعتمدت على مقابلات معمقة مع 32 خبيرًا في شبكات التواصل الاجتماعي في فلسطين، أُشار الباحث إلى أنّ النشطاء في هذه الشبكات يتحملون جزءًا كبيرًا من المسؤولية. فيما أكّدَت الدراسة على ضرورة وضع معايير وضوابط تحكم النشر أثناء الأزمات، مع التركيز على احترام خصوصية الأفراد وحُرمَتهم.
في لحظة أخرى، على الطرف الآخر من القطاع، كانت فاطمة أبو حية تعيش كابوساً مشابهاً. شقيقها "المهندس الأنيق" - كما كانت تدعوه - ظهر في فيديو منتشر وهو يجلس على كرسيه بعد القصف، عيناه نصف مفتوحتين، وكأنّه ينظر إليها. تقول: "بدا أنّه ما زال يتنفس"، تقول فاطمة وهي تعصر يدها حتى احمرت.
في الواقع كان شقيقها مصابًا يُنازع روحه والدماء تُغطي وجهه بينما ملابسه تآكلت من الجروح، "تلك اللحظات ذبحت قلبي وجعلتني ألتصق في الأرض، بينما المصور هناك يكمل تصويره بكل بساطة كأنّه يصور مشهدًا طبيعيًا خلابًا"، تقول فاطمة وهي تكبح دموعها.
لا يقتصر الألم الذي تعيشه عائلات الضحايا على مشهد الحزن الذي ترسخه الصورة، بل يمتد لشكوك عميقة حول تصديق وفاة الأحبة. شقيقة فاطمة، على سبيل المثال، شككت في وفاة شقيقها بمجرد رؤية الفيديو، ورأت أنه كان يتنفس بالفعل، مما دفعها لإعادة مشاهدة الفيديو عدة مرات. تقول: "كدّت أفقد صوابي، رأيته يتنفس، وتخيلت أنّهم دفنوه وهو حي!".
كانت أبو حية في حالةٍ من الانهيار النفسي، وكل ما تتمنى أن تكون تلك اللقطة غير موجودة. رفضت أن تجعل عائلتها تُشاهد الفيديو كاملاً: تتابع: "لقد كنت في حالة صدمة شديدة، كيف يتجرأ شخص على تصوير هذا المشهد البشع ونشره دون مراعاة لشعور العائلة؟"
هذه الصدمة النفسية التي أصابت فاطمة، كما في حالات أخرى، لم يلاحظها المصور لحظة اقتناصه الصورة، كما لم يكن لديه أي فكرة عن الأثر النفسي العميق الذي قد تتركه الصورة على العائلة. فحتى في حالات الموت، تظلّ هناك إنسانية يجب أن تُحترم في التعامل مع الضحايا، وهذا ما غاب عن أخلاقيات نشر الصور في هذه الظروف.
وحسب استبيان لـ "آخر قصة"، للعديد من الناجين، يُجيب 7 من كل 10 -يعانون من اضطرابات نفسية- بنعم عندما يُسألون: "هل شاهدتم صوراً مؤلمة لأحبائكم على الإنترنت؟". هذا الرقم يتماشى مع ما ذكرته منظمات دولية حول تأثير النزاع على الصحة النفسية في القطاع.
وفقًا للتوثيقات الطبيّة، يُعاني العديد من أهالي الضحايا من اضطرابات نفسية شديدة نتيجة تعرّضهم لصدمات مروّعة، في وقت يُوثِق فيه المكتب الإعلامي الحكومي مقتل أكثر من 62,000 شخص منذ بداية الحرب على القطاع في أكتوبر 2023، بينهم 18,000 طفل، مع ظهور صور للعديد منهم في وضعياتٍ مؤلمة دون احترام للضوابط الأخلاقية.
بدوّره، قدّم خليل العشاوي مصور متخصص في تغطية الحروب، إرشادات للصحفيين والمصورين في قطاع غزة بضرورة اتباع المعايير الأخلاقية والقانونية عند التعامل مع صور الضحايا.
وقال العشاوي: "يجب أن تكون الأولوية الأولى هي احترام خصوصية الضحايا. عندما نقرر تصوير موقع ما، نتأكد أولاً من أنّ المكان مناسب للتصوير وأنه لا يتعارض مع خصوصية الأشخاص المتواجدين، خاصة النساء والأطفال".
أما في حالات الصدمة الشديدة، من الأفضل التقاط صور عامة للمكان أو استخدام لقطات بعيدة دون التسبب في زيادة ألم الشخص المتأثر، وفقًا للعشاوي، مع تأكيده على ضرورة الحصول على موافقة مسبقة من الأشخاص الذين نصورهم، والتأكد من أنهم يدركون تمامًا الهدف الإعلامي لهذه الصور.
من المهم أيضًا تحقيق التوازن بين توثيق الحقيقة وحماية كرامة الضحايا. أردف العشاوي: "على سبيل المثال، في حالات الوفاة أو الإصابة، يجب تجنب تصوير الوجوه بشكلٍ مباشر والتركيز على التفاصيل الرمزية التي تعكس الحدث دون المساس بخصوصية الأفراد، مثل تصوير الأيدي أو الملابس الملطخة بالدماء".
ونبّه العشاوي الصحفيين أن يتذكروا دومًا أنّ مهمتهم هي توثيق الواقع بحرفية ومهنية، مع الحفاظ على الاحترام الكامل لحقوق الضحايا وأسرهم، لأن كل صورة تحمل تأثيرًا بعيد المدى.
في المقابل، يقول المحامي مُحارب إنّه يحقّ لكل إنسان التقدُّم بشكوى إذا اعتقد أنه تم انتهاك حق من حقوقه، وذلك لدى الجهات القانونية المتمثلة في النيابة العامة ومن يقوم مقامها وفقًا للأصول القانونية المعمول بها في حالة الطوارئ التي نعيشها اليوم والتي تسببت بتعطلّ النظام القضائي.
بموازاة ذلك، أفاد مدير المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، إسماعيل الثوابتة، بتلقي العشرات من الشكاوى المُماثلة، وقال: "منذ بداية الحرب، قمنا بتشكيل لجنة خاصة لمتابعة ما يُنشر من مواد إعلامية، خصوصًا الصور والفيديوهات التي تمس كرامة الشهداء والمصابين".
ويُشير الثوابتة إلى عقد لقاءات متعددة مع الصحفيين الذين انتهكوا خصوصية بعض الضحايا، يُردف: "شرحنا لهم الضوابط المهنية، ووضعنا توصيات لضبط الأمور."
وتتضمن التوجيهات التي عممها المركز الإعلامي الحكومي وفقًا للثوابتة، على الصحفيين الامتناع عن نشر صور قد تمس كرامة الإنسان أو تظهر الضحايا في وضع مروع دون ضرورة إعلامية، مع التأكيد على ضرورة أن يكون النشر في سياق توثيقي يتسمّ بالتوازن بين نقل الحقيقة واحترام حقوق الإنسان.
لكن الواقع يُشير إلى وجود الكثير من الانتهاكات التي ما تزال منشورة على منصات التواصل الاجتماعي. فيما ترى لبنى الأشقر مستشارة التطوير في مركز صدى سوشيال المختص في رصد وتوثيق الانتهاكات الرقمية الفلسطينية، أنّ الحل يبدأ بالصحفيين أنفسهم: "نحن نوثق الجريمة، لا نُذل الضحايا". لكن في زمن الحرب، حيث كل هاتف محمول يحوّل صاحبه إلى "مراسل"، يصعب فرض أي معايير.
وتشير إلى ضرورة وأهمية أن يحصل الصحفيون والنشطاء على موافقة من الضحايا أو عائلاتهم قبل نشر أي صورة أو فيديو، وكذلك ضرورة مراعاة المصلحة الفضلى للنساء والضحايا بشكلٍ عام، وضمان الحفاظ على كرامتهم الإنسانية، واحترام الجسد والوضع النفسي لهم.
وتفيد الأشقر أنّهم في "صدى سوشال" يُولون أهمية كبيرة لحقوق الضحايا، ويعملون على توجيههم لجهات نفسية وقانونية لمساعدتهم في مثل هذه الحالات.
بينما يواجه الغزيون الموت بأشكاله المختلفة، يبقى الألم النفسي الذي تسببه الصورة الأخيرة للأحبة خاصّة إذا كانت في ظروف غير لائقة، تلك التي تُخلِّف ذكرى جارحة تُذكّرهم بكل لحظة مريرة، صراعًا مستمرًا ضدّ انتهاكٍ لا يُمحى للكرامة الإنسانية.
موضوعات ذات صلّة:
انتهاك خصوصية الضحايا: مبادئ كي لا يفقد الإعلام رسالته
تصوير الحروب: تحديات أخلاقية ونصائح للمصورين
تصوير الحوادث ينتهك خصوصية الضحايا
حماية الأطفال الضحايا من الانتهاك الإعلامي
انتهاك خصوصية الضحايا عبر التوثيق الإعلامي