هكذا دق الذعر الشيب في رؤوس الأطفال

هكذا دق الذعر الشيب في رؤوس الأطفال

يُمسك الطفل أحمد، ذو الثلاثة أعوام، بثوب أمه بشدّة، عيناه تتابعان المشهد المروّع أمامه: المصابون يصرخون، الدماء تتناثر على الأرض، والوجوه واجمة بالرعب. ثم يظهر والده فجأةً بين الزحام، رأسه ينزف. يصمت الطفل فجأة، وكأنّ الصمت أصبح لغته الوحيدة.

بعد أيامٍ قليلة، تكتشف أم أحمد خصلات رمادية تتسلل بين شعره الأسود، انّه الشيب بدأ يتسلل إلى رأسِ صغير لم يتعلّم بعد نطق الحروف جيدًا، لكنّه عَرِف الخوف، وأصبح شعره شاهدًا عليه.

تقول براءة أحمد، والدة الطفل، وهي تُمرِّر أصابعها بين شعره: "رأى بيتنا يُقصف، وشاهد والده مصابًا، وسمع دويّ الانفجارات كثيرًا، وفي كل مرّة يختفي في الزاوية، يحني رأسه بين كفّيه ويبكي". 

لم تكن تلك الليالي سوى البداية. في إحدى المرّات، وبينما الأحزمة النارية العنيفة تهز محيط مجمع الشفاء الطبي غرب غزة حيث كانت أسرة أحمد تنزح، وقف الصغير عند نافذة المستشفى، وهو يصرخ: "صاروخ! راسي دم!"، مشيرًا بيديه المرتعشتين إلى السماء، فنصحهم الطبيب بالابتعاد عن المستشفى؛ لكن أين يذهبون؟ الحرب في كل مكان. 

يُعرَّف الشيب على أنه تغيُّر في لون الشعر من اللون الطبيعي إلى الأبيض أو الرمادي نتيجة نقص أو توقف إنتاج صبغة الميلانين المسؤولة عن لون الشعر والجلد. عادة ما يظهر الشيب مع التقدُّم في العمر، ولكنّ ظهوره في مرحلة الطفولة قد يُثير الاستغراب لدى الأسر، خصوصًا في غياب العوامل الوراثية.

الطفل أحمد ليس استثناءً. فوفقًا لمنظمة اليونيسيف، يعاني 85% من أطفال غزة من اضطرابات نفسية حادّة بسبب الحرب، أمّا منظمة "أنقذوا الطفولة" فأشارت أنّ الحروب المستمرة تتسبب في جملة من العواقب على الصحة العقلية للأطفال كاضطرابات الاكتئاب وارتفاع مستويات التوتر التي تظهر على شاكلة آلام جسدية، وصعوبة في التنفس. 

وكشفت دراسة أجراها مركز التدريب المجتمعي وإدارة الأزمات الفلسطيني على (504) عائلة، أنّ 96% من الأطفال يشعرون بأنّ الموت وشيك، بينما يعاني 87% من خوفٍ شديد يمنعهم حتى من النوم. فيما لا يتقبل 92% من الأطفال الواقع، و73% ظهرت على سلوكياتهم عنف واضح، و77% يهربون من التحدث عن الصدمات.

تترجم الأرقام إلى قصص تروي معاناة الأطفال من غزة جرّاء الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023 وحتى اليوم، لتنقل الصورة كاملة. الطفل يحيى، البالغ من العمر ثماني سنوات، أصبح يُغمى عليه تلقائيًا بمجرد رؤية دم. 

بعد نزوح عائلته من شمال قطاع غزة، تعرّضوا للحصار والقصف الشديد لساعاتٍ متواصلة في خانيونس جنوب القطاع، وحيّنها كان الصغير نائمًا؛ لكنّ أمه، فاطمة نافذ، خشيت إيقاظه أثناء القصف كي "لا يتوقف قلبه من الخوف" كما قالت فالطفل شديد الخوف والتأثر من القصف وتبعاته. 

تقول فاطمة: "بعد أشهر من الحرب، لاحظت شعيرات بيضاء في رأسه. عندما سألني عنها، لم أخبره أنّها نبتت من شدّة القصف"؛ لكنّ إخفاءها الحقيقة عنه لم يدم طويلًا، فبعد أن شَهِد صدمة عمته باستشهاد ابنها واستيقاظه على صراخها، زاد البياض في شعره، كما زاد صمته.  

الأطفال في غزة لم يعودوا يخافون فقط من القنابل، بل مما يُترجمه الخوف من أمراض ومشكلات صحية أيضًا على أجسادهم. يامن (12 عامًا) الذي يتمتع بشعرٍ كثيف لاحظ ظهور شعيرات رمادية بين خصلاته المُتداخلة؛ فحاول إخفاءها بتغير شكل تسريح شعره لكنّ عبثًا يُحاول فمع كل صدمة جديدة يتغول الشيب أكثر في شعره.

تقول والدته، نسرين النجار: "يراقب شعره كل يوم، ويغضب إذا علّق أحد على لونه المائل إلى الأشقر". وفي إحدى المرّات، همس لها بصوتٍ مرتجف: "إذا استمرّ انتشار الشيب في شعري هكذا، عندما أصبح 15 سنة سيشيب بالكامل".  

وعلى الرغم من أنَّ الطبّ يعزو الشيب المبكر عادةً إلى نقص فيتامين B12 أو اضطرابات الغدّة الدرقية، فإنّ الأطباء في غزة يجدون أنفسهم أمام ظاهرة مختلفة. طبيب الأمراض الجلدية إبراهيم حبوب، يقول إنَّ التوتر قد يكون أحد الأسباب المحتملة"، لكن العلم لم يحدد بعد الآلية الدقيقة لتوقف إنتاج الميلانين، حتى في حالات مثل البهاق والثعلبة، وفق قوله.

ويُفيد الطبيب حبوب أنّهم يَرون الشعر الأبيض يظهر فجأة أثناء العلاج، لكنّ السبب الحقيقي لا يزال مجهولًا. كما قد يرتبط الشيب بنقص الفيتامينات والمعادن أو التوتر والقلق.

يُوثق علميًا الشيب المبكر بسبب الصدمة (خاصة لدى الأطفال) تحت ما يُعرف بـ "متلازمة ماريا أنطوانيت"(Marie Antoinette syndrome) ، حيث يرتبط الإجهاد النفسي الحادّ بفقدان صبغة الشعر.

المختص النفسي والاجتماعي عرفات حلس، يُشير إلى أنَّ هناك تزايدًا في حالات الشيب المُبكر بين الأطفال في قطاع غزة. ويقول: "انعدَّام الدعم النفسي، واستمرار الصدّمات، يجعل أجساد الصغار تتحوّل إلى سجلات للرعب".

وأكّد حلس على أنّ الصحة النفسية تنعكس بشكلٍ كبير على الصحة الجسدية، يُردف: "تكرار الحالات يؤكد أنّ هناك ارتباط وثيق بين الخوف الشديد وظهور الشيب". فيما ينصح الأهالي بعدم التركيز على الظاهرة كي لا تتحوّل إلى مصدر قلق إضافي، لكن كيف يمكن تجاهل ما أصبح مرئيًا؟

اليوم، بينما يستمر القصف الإسرائيلي بلا توقف، تتحوّل كل شعرة بيضاء جديدة تنبت في رؤوس الأطفال إلى ندبة أخرى في ذاكرتهم. بعضهم، مثل أحمد، لا يزال صغيرًا جدًا على فهم لماذا تغيَّر لون شعره، لكنّه كبير بما يكفي ليعرِّف أنَّ الخوف لم يعد شعورًا عابرًا؛ بل لونًا يُلازمه إلى الأبد.

وفي خضمّ الدمار الذي لا ينتهي، تُمسك أمهات بأطفالهن، يتصفحن صورهم القديمة على هواتفهنّ. تلك الصور التي التُقطت قبل الحرب على غزة، حين كان الشعر أسود، والضحكات غير مختلطة بالرعب. الآن، أصبح شيب الأطفال تذكيرًا يوميًا بأنَّ الحرب لا تقتل الأجساد فقط؛ بل تقتل الطفولة نفسها.

 

موضوعات ذات صلّة:

أطفال تحت الصدمة.. أي جيل تنتظره غزة؟

أطفال غزة: "عالقون في دائرة الألم"

الشيب يحكي قصة الحروب

ألوان الصمت