"كدّت أفقد صوابي وشعرت كأنني جالسة داخل حاوية القمامة نفسها" بهذه الطريقة وصفت سهير مجدي (55 عامًا) نزوحها في أحد مراكز الإيواء داخل مدينة غزة جرّاء الحرب الإسرائيلية الحالية، في ظلّ غياب مقومات النظافة في مرافق المكان.
كانت مجدي تنزح كل مرّة بحقيبة مليئة بمواد التنظيف الأساسية وتخشى عليها كما لو كانت أغلى ما تملك، ووسط التكدّس الهائل للنازحين من حولها، كان القلق يأكل تفكيرها في كل مرة تحتاج فيها لاستخدام دورة المياه العامة.
"أصبحت أرسل ابنتاي لتنظيف دورة المياه وتعقيمها في كل مرة نحتاج فيها لاستخدامها". أردفت، وبينما تقف السيدات في طابورٍ طويل أمام باب دورة مياه عامة، تدخل الفتيات ليخضن معهن معركة إقناعهن بالسماح لهن بالتأخر قليلًا لضرورة تعقيم المكان قبل دخوله.
في أزقة مراكز الإيواء ومخيمات النزوح بقطاع غزة، حيث البيئة المُلوثة وغير الصحيّة يعيش أناسٌ يحملون هموماً لا تُرى بالعين المجردة. مرضى الوسواس القهري، هؤلاء الذين حوّلت الحرب حياتهم إلى سلسلة لا تنتهي من الطقوس القهرية، في بيئة تتعارض تمامًا مع أبسط احتياجاتهم النفسية.
تجلس آيات داوود (29 عامًا) في ركن خيمتها الضيقة، تمسح يديها بمنديلٍ مبلل للمرة العاشرة هذا الصباح. كل لمسة لأي سطح خارجي تُشعرها بأن جراثيم غير مرئية تتسلل إلى جسدها. تقول بصوتٍ يكاد يختنق: "الهواء نفسه ملوث هنا".
قبل الحرب، كانت داوود تتحكم جزئيًا في هواجسها عبر التنظيف المستمر لمنزلها، تُعقب: "كان بيتي دائمًا لامع ومُشع"؛ لكن اليوم، في مخيم النزوح وسط مدينة غزة، لم يعد هناك جدرانٌ تحميها من العالم الخارجي. "أحلم بأن أستحم يوماً دون أن أخاف من المياه نفسها"، تضيف داوود بينما تنظر إلى دلو الماء المُغبَر سطحه.
وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يعاني حوالي 2-3% من سكان العالم من الوسواس القهري، لكن النسبة في غزة قد تكون أعلى بسبب الضغوط المزمنة للحرب كالصدمات النفسية، ونقص الرعاية الصحية.
يتمثل نقص الرعاية الصحية في قطاع الصحة النفسية بغزة في قلّة الإمكانات، حيث لا يوجد سوى مستشفى واحد متخصص بسعة 50 سريرًا، بالإضافة إلى وجود عشرة أطباء نفسيين فقط لخدمة أكثر من مليوني نسمة في القطاع.
ويُشير المختصون إلى أنّ مرضى وسواس النظافة يواجهون تحدّيات إضافية في ظلّ الاكتظاظ السكاني للنازحين، ونُدرة المياه النظيفة، وانتشار البعوض والذباب كناقلين للأمراض المُعدية. كما أنّ غياب عمليات التنظيف المُنظمة تحوّل كل يوم إلى كابوس بالنسبة لهم.
"لو لم أُنظف نفسي والمكان من حولي، سأموت". بهذه الجملة يُلخص حسام منير (42 عامًا) من خانيونس جنوب قطاع غزة معاناته. منذ أن تدمر بيته بقصفٍ إسرائيلي قبل عام كعشرات الآلاف من المنازل الأخرى، وانتقل للعيش في خيمة نصبها على ركامه، ازدادت طقوسه القهرية حدّة.
لم يعد منير يغسل يديه فحسب، بل يفرك جلده حتى يُنهكه الألم. "أعلم أنّ هذا لن يُغير المحيط من حلي للأفضل؛ لكنني أخشى أن أُصاب بمرضٍ يقضي عليّ أيضاً"، يقول وهو يفرك كفيه المتشققتين.
في المخيم، حيث تتكدس عشرات العائلات في مساحات ضيقة، يصبح تجنب التلوث أمر بالغ الصعوبة. تُشير تقارير الأمم المتحدة إلى أنَّ 70% من النازحين في غزة يُعانون نقص حادّ في مياه الشرب النظيفة، ناهيك عن الصابون أو المعقمات. بالنسبة للأشخاص الذين يعانون وسواس النظافة، فإنَّ هذه الأرقام ليست إحصاءات، بل واقعٌ يزيد من نوبات مخاوفهم اليومية.
"النظافة هنا ليست رفاهية، بل حاجة ماسّة"، تقول فاطمة عبد الحكيم (35 عامًا)، التي نزحت من مدينة رفح جنوب القطاع إلى مخيم في مواصي خانيونس مع زوجها وأطفالها.
منذ مكوثها في الخيمة، وهي لا تكف عن تنظيف أرضيتها المُغطاة بالحصير بالكلور والمُعقمات، ترفض أن يجلس أطفالها على الأرض الترابية خارج الخيمة، خوفاً من البكتيريا. "عندما نذهب إلى المرحاض المشترك، أشعر أنني في بقعة موبوءة، وأطلب منهم ألا يلمسوا شيئاً"، تقول.
لكنّ الحرب لا تترك خيارات، ففي المخيمات، حيث يعيش نحو مليوني نازح، وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة للاجئين، تصبح الأمراض الجلدية والهضمية شائعة بسبب سوء الصرف الصحي.
تُردف السيدة التي أصبحت فكرة "التلوث" هاجس يطاردها طوال الوقت، "حتى الملابس التي نغسلها تبقى مُلوثة لأن المياه نفسها غير نظيفة"، توضح بينما تحاول إبعاد الذباب عن وعاء الطعام.
وبالنسبة لعبد الحكيم، يجعلها هذا الخطر المزدوج بين القصف والأمراض تعيش في حالة تأهب دائمة. "أحياناً أتساءل: هل الموت بالقصف أهون من الموت بالأمراض؟".
الأطباء في النقاط الطبيّة يروْن حالاتٍ مُتكررة. المعالجة النفسية أروى أحمد تقول: "المريض بالوسواس القهري يعيش في صراع دائم بين ما يفرضه عليه المرض وما تفرضه عليه البيئة، وفي غزة، البيئة نفسها أصبحت مُحفزاً للأعراض".
وحسب منظمة الصحة العالمية، فقد دُمِرت في قطاع غزة 60% من المرافق الصحية جرّاء الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023، ونتيجةً لذلك تعطلت مراكز الدعم النفسي عن العمل فيما أُغلقت الكثير منها أو أصبحت تعمل بطاقة محدودة.
تُردف أحمد: "على الرغم من تفاقم الحالات التي تعاني من مشكلات نفسية في قطاع غزة بفعل تدّاعيات الحرب عليهم؛ إلا أنّ الطاقة الاستيعابية لمتابعتهم محدودة للغاية نتيجة نقص الإمكانات".
وبينما كانت تُركِز برامج المساعدة على الغذاء والدواء أُهملت الصحة النفسية. وعلى الرغم من أنّ بعض المُبادرات التطوعية قدّمت جلسات دعم جماعي في الخيام، لكنها تبقى غير كافية. تضيف المُعالجة النفسية: "ما نحتاجه هو تحسين الظروف المعيشية أولاً، إذ لا يمكنك أن تطلب من مريض الوسواس أن يهدأ وهو يرى المياه الملوثة تتدفق أمام خيمته".
ومع ذلك، ينصح مختصون نفسيون المصابين بوسواس النظافة القهري بمجموعة من النصائح التي قد تساعدهم في التخفيف من تدّاعيات الأزمة عليهم إبان استمرار الحرب:
تخصيص زوايا "نظيفة" في الخيمة باستخدام بلاستيك/أغطية
استخدام القفازات عند لمس الأسطح المشتركة
استخدام بدائل مثل المناديل المعقمة -في حال توفرها-
تحديد أوقاتاً محددة للتنظيف بدلاً من الاستجابة المستمرة للهواجس
ممارسة تمارين تنفس عند الشعور بالقلق
التواصل مع مجموعات الدعم النفسي المتاحة
في غزة، حيث الموت يطرق الأبواب بانتظام، يصبح الحديث عن "الوسواس القهري" كأنه ترفٌ لا يليق بزمن الحرب. لكنّ المعاناة لا تُقاس بالمعايير الظرفية. هؤلاء المرضى، الذين يُجبرون على العيش في بيئة تُناقض كل ما يحتاجونه، يدفعون ثمناً مضاعفاً: ثمن المرض، وثمن الحرب.
موضوعات ذات صلّة:
كيف تبني مرونة نفسية في بيئة مليئة بالتحدّيات؟
العلاج النفسي الفردي: طريق شائك للتعافي
الغزيون يكافحون البعوض بالخل والصابون!
تفشي النفايات: التهديد الصامت لصحة سكان غزة
الوسواس القهري في قطاع غزة