استيقظت الطفلة نور طبيل (9 أعوام) ذات ليلة على دويّ انفجار هزّ الأرض تحت أقدامها، تلاه وميضٌ أحمر مزّق ظلام سماء غزة، التي تشهد منذ أشهر حربًا تاركةً وراءها أكثر من 52 ألف شهيد، ونحو 1.9 مليون نازحٍ حسب إحصاءات الأمم المتحدة.
على وقع الصوت العنيف التصقت شمس شقيقة نور الصغرى، بوالدتها روان، بينما فتحت الأخيرة عينيها على بكاء طفلتها المرتعشة.
سألت روان بلغة الإشارة: "ماذا حدث؟"، فأجابتها نور بيدين ترتجفان: "قصف جديد". لم تمرّ ثوانٍ حتى اهتزت الخيمة التي لا تقيهم خطر رصاصة أو شظية تحت وطأة انفجار آخر، فجلس والدها محمود فجأةً، يحدّق في نور، ثم في زوجته، عيناه تبحثان عن تفسيرٍ لما يحدث خارج جدران القماش الرقيقة.
وعلى الرغم من صغر سن نور، لكنها لم تعد تلك الطفلة التي تلهو وتتعلم في المدرسة. اليوم هي الجسر الذي يربط والديها بين عالمين: عالم الصمت الذي يعيشون فيه، وعالم الأصوات المرعب الذي يحيط بهما.
الزوجان الفلسطينيان محمود وروان طبيل من فئة الصمّ، ويعتمدان على طفلتهما نور في ترجمة الأخبار، والأصوات، وحتى مشاعر الخوف التي تملأ الأركان جرّاء الحرب على قطاع غزة.
تترصد الصغيرة أصوات الطائرات وتُفسر للوالدَين أوضاع الحرب. تقول نور، التي أغلقت للتو راديو صغيرًا كانت تستمع إليه: "أنا أسمع الأخبار وأحكيها لهم، هم لا يسمعون، لكنهم يشعرون بكل شيء".
"أخاف أن أفقد سمعي مثلما حدث مع كثير من الناس بسبب شدّة الانفجارات"، تُردف نور التي سمعت عن عشرات الحالات التي فقدَت سمعها كواحدة من تدّاعيات الحرب، بينهم أطفالٌ تقلّ أعمارهم عن خمس سنوات، حيث قفزت نسبة الأشخاص المُعرَّضين لفقدان السمع في قطاع غزة إلى 2.8%، وفقًا لبيانات صدرت عن جمعية "أطفالنا للصمّ، كما أنّ هناك 35 ألفًا آخرين مُهددون بفقدان ما تبقى من سمعهم.
"كيف نهرُب من القصف إذا لم نسمعه؟" هذا السؤال الذي يُطارد محمود كل ليلة. ففي قطاع غزة، حيث يعيش أكثر من 20 ألف شخص من ذوي الإعاقة السمعية، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، وسط حرب جعلت حياتهم أكثر صعوبة، بالإضافة إلى نقص الرّعاية الصحيّة وفرص العمل، يواجهون تحدّيًا أكبر: إذ لا توجد إنذارات ضوئية للمعاقين سمعيًا، ولا أجهزة تهتز لتنبيههم. كيف يفهمون الخطر القادم إذا لم يسمعوا صفارات الإنذار أو أصوات القصف؟
بالعودة لوالد نور، محمود الذي يرسم الخطوط في الهواء معبرًا عما يريده لطفلته، "ابنتي هي وسيلتي الأولى لفهم ما يدور حولي، مع كل غارة إسرائيلية تركض نور لمعرفة الخبر، لتحكيه لنا بلغتنا". يقول وهو يشير بلغته الخاصة لطفلته شمس لكي تبتعد عن النار المشتعلة أسفل براد الشاي.
أحمد، الأخ الأصغر، يتدرّب أيضًا على التواصل مع والديه، بمساعدة نور. "ماما كانت تعلمني الكلمات بدفتر وقلم"، تشرح الطفلة، بينما تتصفح دفترًا ممزقًا كان رفيقها في رحلات النزوح المتكررة. فمنذ بداية الحرب، تنقلت العائلة بين منازل الأقارب عشرات المرات هربًا من القصف.
وفي كل مرة يضطرون فيها إلى الفرار، يحتاج محمود إلى ابنته نور أكثر من أيّ وقتٍ مضى. يقول "لا أستطيع أن أتنقل دونها، تجدّ لنا وسيلة النقل وتساعدنا في كل شيء، انها عصب عائلتنا". فقد تحوّلت نور من طفلة إلى مصدر قوة بالأدوار التي تلعبها في الأسرة فهي مُترجمة، ومزودة أخبار، وحتى "مُدرّبة إشارة" صغيرة لأشقائها.
ترى نور نفسها "خبيرة" في تحديد اتجاه الانفجارات، "أعرف من أين يأتي الصوت"، تقول بفخرٍ طفولي، بينما تحاول أن تُظهر شجاعة أمام شقيقيها. لكن في الليل، عندما تهتزّ الخيمة والأرض تحت أجسادهم، تضغط على أسنانها لتجنب البكاء فهي تعرف أنَّ والديها يراقبانها، وأنَّ ذعرها سيزيد من رعبهم.
القانون الدولي، يُوجب حماية الأشخاص ذوي الإعاقة في النزاعات المسلحة. لكن الاحتلال ينتهك هذا الحقّ يوميًا في غزة، كما يوضح المحامي يحيى محارب، "الاحتلال الإسرائيلي ينتهك اتفاقيات جنيف وقواعد حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة"، يقول محارب، مشيرًا إلى المادة 11 من اتفاقية 2006 التي تُلزِم الدول بحماية هذه الفئة في أوقات الحرب.
ويُشير المحامي مُحارب إلى أنّ 90% من مراكز الصمّ في قطاع غزة أُغلقت بسبب القصف أو نقص التمويل. يُردف: "المساعدات القليلة التي تصل لا تكفي لسداد احتياجات كافة ذوي الإعاقة، وحتى الأدوات السمعية لم تعد متوفرة".
وقبل الحرب، كان طبيل يعمل في مطعمٍ يقدم وجبات سريعة؛ لكنّ القصف دمّره، كما دمّر مئات المشاريع الصغيرة في قطاع غزة. وعلى الرغم من أنّ راتب الرجل كان بالكادّ يكفي لسدّ احتياجات العائلة؛ لكنه كان يشعر بالامتنان. اليوم، لم يعد هناك عمل، ولا دخل، ولا أمان. "كنا نعيش حياة بسيطة، لكنها كانت مستقرة"، تأشر زوجته روان بيديها فيما تترجم نور قولها، وهي تمسك بيد شمس الصغيرة، التي تُقلّد إشارة والدتها عن غير فهم.
الخيمة التي تسكنها العائلة بالكادّ تتسع لأربعة أشخاص. أرضيتها ترابية، وسقفها من النايلون والقماش البال، في الليالي الباردة يتكدّس الجميع تحت بطانية واحدة. "عندما يبدأ القصف الشديد، نلتف حول بعضنا"، تقول نور.
أما الطعام، فهو معاناتهم اليومية. "آخر وجبة مُغذية أكلناها كانت قبل أشهر"، يقول محمود، ووفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، يعاني 93% من سكان غزة انعدام الأمن الغذائي. فيما تفتح نور صندوق المؤنة المتبقية من المساعدات الإغاثية التي حصلوا عليها قبل أن تتوقف بفعل إغلاق المعابر، ثم ترفع أصابعها لتعدّد لوالدتها عدد علب الطعام المتبقية. ثلاث باكيتات معكرونة، علبتا فول، وقليل من الأرز.
تُعقب روان بالحديث مع مراسلة "آخر قصة" عبر نور: "نحاول التوفير فيما تبقى لدينا من أطعمة، وننتظر دخول الطعام لنستطيع تلبية احتياجات الصغار". لا تحتاج هذه السيدة إلى كلمات لتعرف أنّ الحرب والحصار لم ينتهيا بعد. لكنّها تبتسم، وترفع يديها في دعاءٍ صامت لتقول: "سنكون بخير".
وعندما يهدأ القصف، تهمس نور لأختها شمس بقصص عن بحر غزة الذي لم تره منذ شهورٍ طويلة، وعن مدرستها التي أصبحت ركامًا. "أحلم أن أصبح معلمة إشارة كي أساعد أبي وأمي"، تقول. لكن الحرب لا تترك لها وقتًا للأحلام. فمع كل انفجار، تعود تلك اليدان الصغيرتان إلى الترجمة، وتلك العينان إلى مراقبة الخوف في عيون والديها. ففي غزة، عندما يُخفي الصمت رعبًا لا يُسمع، تكون الإشارة أحيانًا هي الصوت الوحيد الذي يهم.
موضوعات ذات صلّة:
غزة بلغة الإشارة: تحديات الصم في منطقة الحرب
ذوو الإعاقة.. عن تحدّيات النجاة وحفظ الكرامة
مبتورو الأطراف: حلم قطع السنتيمترات دون مساعدة
حرب غزة: كيف يعيش الصم في قطاع غزة خلال الحرب؟
طفل تساعد والديها من ذوي الإعاقة السمعية