في عالمٍ تدخل فيه التكنولوجيا إلى أدنى معاملات حياتنا اليومية، يجلس الشاب الفلسطيني محمد الشاعر (24 عامًا) أمام شاشة هاتفه الخالية من إشارة الإنترنت في زاوية خيمة مقامة في مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة، محاطًا بكتب برمجة يصعُب عليه تطبيق ما جاء بين دفتيها.
منذ أكتوبر 2023 عندما اندّلعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تحوّلت حياة محمد – كمعظم شباب غزة – إلى سباق عكس الزمن بعد انقطاع شبكات الاتصالات والانترنت.
"العالم يتحدث عن الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي، بينما نحن نجتهد لإشعال نار للطهي!"، يضيف الشاعر، الذي أصبح كل شيء حوله يُذكّره بأنه يعيش في زمنٍ موازٍ، ووجد نفسه عالقًا في المنتصف بعد انقطاع الإنترنت لشهورٍ متواصلة.
كان الشاعر يدرس البرمجة قبل أن يُحاصر بفجوة رقمية تجعله عاجزًا عن مجاراة أقرانه خارج القطاع، فمع كل يوم يمر دون قدرة محمد على التواصل مع معلميه أو متابعة دروسه عبر الإنترنت، تزداد الفجوة بينه وبين جيل الشباب بالخارج الذي ينعم بإمكانيات تعليمية لا حصر لها.
لكن ليس هذا الشاب وحده مَن يعاني هذه الهِوة التكنولوجية. ففي قطاع غزة، الذي تُشكل الفئة الشابة (تحت سن الـ 30) نحو 65% من تكوينه السكاني، تتحول الأزمة الرقمية إلى معاناة تُغيِّر نمط حياة الكثير منهم.
هذا التأثر يصبح أكثر وضوحًا في ظلّ الحرب التي يغيب أفق وقفها، حيث قطع جيش الاحتلال شبكات الإنترنت؛ ما فاقم من عزلة الشباب الغزيين. هؤلاء الشباب الذين كانوا يطمحون في بناء مستقبل يتماشى مع متطلبات العصر، وجدوا أنفسهم محرومين من الفرص التعليمية والمهنية التي تتيحها التقنية الحديثة، مما أثر بشكل كبير على تطورهم العلمي والمهني.
إسماعيل عبد الله (33 عامًا)، طالب ماجستير في الهندسة المعمارية، يصف لحظة عودته إلى الإنترنت بعد أشهر من الانقطاع: "اكتشفت أنّ تقنيات BIM (النمذجة ثلاثية الأبعاد) صارت تُدار بالذكاء الاصطناعي: "كأنني استيقظت في فيلم خيال علمي، كل ما تعلّمته أصبح كاللغز".
يُردف عبد الله بكثير من الأسى: "لا أعرف كيف سنتدارك هذا كله بينما نحن نعيش وسط مدينة من الركام، أشعر بالأسف تجاه ما أهدرت عمري على التخطيط والعمل لأجله، ويبدو أنّ كل سنوات دراستي ذهبت هباء".
شهد عاطف (26 عامًا)، مبرمجة من بيت لاهيا شمال مدينة غزة، عاشت تجربة ممائلة، بعدما كانت تنسج أحلامها بين أكواد البرمجة، دفنت الحرب حاسوبها تحت أنقاض منزلها، وعانت من واقعٍ مرير نتيجة انقطاع الإنترنت.
تقول بينما تحاول إصلاح اتصال هشّ عبر نقطة إنترنت عامة: "انقطعنا عن العالم عامًا ونصفًا، كأننا نعيش في كبسولة زمنية. عندما عُدت إلى الشبكة، اكتشفت أن أدوات مثل Adobe XD صارت تعمل بالذكاء الاصطناعي. شعرت أنني غريبة في عالمٍ كنتُ أعتقد أنني أتقنه".
لم يتوقف الأمر مع هذه المُبرمجة عند الصدمة الرقمية؛ بل تسبب بشكلٍ واضح في تأخر حصولها على فرص عمل مناسبة، تُردف: "أحتاج أن أسابق الزمن وأتلقى دورات مكثفة للتمرين على التقنيات الجديدة من حولي لأواكب المجال المهني المتطور، لكن عدم حصولي على فرص اتصال انترنت جيدة يُعيق ذلك".
خلف هذه القصص، تكشف الأرقام حجم الكارثة، بعدما أغلقت 90% من الشركات التكنولوجية أبوابها جرّاء الحرب، وفقًا لغرفة تجارة وصناعة غزة، بينما يعيش القطاع على ما تبقى من أجهزة قديمة، حيث دمر الاحتلال 80% من الحواسيب.
وتُقدَّر تكلفة ساعة الإنترنت الواحدة في بعض المناطق بــ 1 دولار، وفق مسح ميداني لـ "آخر قصة"، في وقتٍ ينخفض فيه متوسط الدخل اليومي إلى أقل من دولارين؛ مما يُشير إلى صعوبة قدرة الكثير من الأفراد على الحفاظ على اتصال انترنت متواصل في ظلّ تردّي الأوضاع الاقتصادية وتفشي الفقر إلى مستوياتٍ غير مسبوقة.
سعدي حمد، خبير تطوير الأعمال الرقمية، يٌشير إلى أنّ انقطاع الانترنت لم يكن مجرد عزلة افتراضية، مؤكدًا على أنّ القطاع التكنولوجي في غزة، أحدّ أهم مصادر الدخل للشباب، وبذلك تحوّل انقطاع الإنترنت إلى أزمة غيّرت مسارات دراسية ومهنية للكثير منهم.
يصف حمد الوضع بمرارة: "كان القطاع بدأ يشهد تحسن ملموس من خلال ريادة الأعمال والشركات التكنولوجية مع تدريب آلاف الشباب على برمجة الويب والذكاء الاصطناعي، لكن الحرب أعادتنا سنوات إلى الوراء وتراجعت الكثير من هذه المفاهيم".
العديد من الشركات الناشئة التي كانت تُدار من مكاتب صغيرة، تحوّلت إلى ركام، ومنها حاضنة "سكاي جيكس"، التي كانت تدعم عشرات الرواد، لكنّ الحرب دمّرتها بالكامل.
لكنّ الخسائر لم تكن مادية فحسب. يردف حمد: "بين الضحايا كان أسماء مثل المهندس هيثم النباهين وطارق ثابت مؤسسي "يوكاس"، وياسر العالم، بروفيسور ريادة الأعمال. فقدنا عقولًا كانت قادرة على بناء جسر بين غزة والعالم".
هذه الممارسات بما فيها قطع الاحتلال الإسرائيلي للإنترنت على قطاع غزة، تُمثل انتهاكًا صارخًا للمادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تضمن حق الوصول إلى المعلومات. فيما يصفه حقوقيون بأنّه جزء من سياسة تجويع السكان ليس فقط من الغذاء، بل من المعرفة.
في الإطار نفسه، تؤكد تقارير منظمة "هيومن رايتس ووتش"، التي تشير إلى أن الهدف تعطيل توثيق الانتهاكات وتجميد التنمية؛ ما يُشير إلى أنّ تلك الممارسات لم تكن مجرد انقطاع تقني عابر.
تحوّل الإنترنت من أداة اتصال إلى مصدر قلق بالنسبة للكثير من الشباب الذين يشعرون أنّهم خارج الزمن. وكل يوم جديد يُضاعف هوّة بينهم وبين العالم. آلاء محمد (28 عامًا)، كاتبة محتوى من خانيونس جنوب قطاع غزة، تعيش هذا القلق يوميًا: "عندما سمعت عن ChatGPT، شعرت أن مهنتي قد تختفي قبل أن أتمكن من اللحاق بها".
وتقطع محمد، 4 كم يوميًا للوصول إلى منطقة يتوفر فيها إنترنت؛ لتتعلم استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في مجالها عبر يوتيوب، وتعتمد على تدوين كل ما تتعلمه في ظلّ عدم مقدرتها على التجربة والتدريب المتواصل بعد عودتها لمكان سكنها حيث لا يتوفر انترنت أو كهرباء.
أمام هذا الواقع، أشار المختص الرقمي إلى ضرورة أن يُعاد بناء القطاع التكنولوجي في قطاع غزة، ولو بشكلٍ جزئي، ليتمكن الشباب من العودة إلى التواصل مع العالم والعودة إلى أعمالهم ومواكبة آخر التطورات التكنولوجية حول العالم. وينصح بضرورة العودة التدريجية لمواكبة التقدم العالمي بالبحث عن آخر التحديثات من مصادر موثوقة لتقليل الفجوة المعرفية.
على الرغم من كل شيء، لا يزال الشباب يحاولون، البعض يقطع مسافات طويلة للوصول إلى مناطق تصلها إشارة إنترنت ضعيفة. آخرون يعتمدون على الكتب القديمة أو الذاكرة. لكنَّ الكهرباء المتقطعة والأسعار المرتفعة للاتصال بالإنترنت تجعل المحاولات أشبه بسباق عكس عقارب الساعة.
"نحن لا نطلب سوى أن نكون جزءًا من هذا العالم"، تقول شهد بينما تغلق حاسوبها بعد انقطاع الإنترنت مرّة أخرى. في غزة، حيث الحروب تتكرر لكن الشباب لا يستسلمون، تبقى المعركة الأصعب هي إثبات أنهم ما زالوا هنا.
موضوعات ذات صلّة:
ورود الدهشان: من رماد الحرب إلى العالمية
النازحون الشباب: أحلام مستحيلة نتيجة الصراع
هكذا حُكِم على شباب غزة بالأشغال الشاقة
العمل عن بعد: عائدات لا تغطي قائمة النفقات
الشباب والتكنولوجيا في غزة