مبتورو الأطراف: حلم قطع السنتيمترات دون مساعدة

 في مركز الأطراف الصناعية أمال معلقة

مبتورو الأطراف: حلم قطع السنتيمترات دون مساعدة

تحمل غزة بين أنقاضها قصصًا لا تُحصى، لعلّ من أشدّها ألمًا أولئك الذين خسروا أطرافهم لكنهم رفضوا أن يخسروا إرادتهم. رائد أبو الكاس، ذو الـ 51 ربيعًا، كان شغوفاً بعمله كموظف في بلدية غزة يعمل على تشغيل آبار المياه، لكن الآن قًلبت حياته رأسا على عقب إثر بتر قدمه. 

في الثالث والعشرين من أكتوبر 2024، بينما كان يعمل أبو الكاس مع فريقَه قرب مقبرة الإنجليز شمال شرق مدينة غزة، حلّق صوت طائرة إسرائيلية مسيّرة ثمّ وجهت صاروخاً تحوّلت بفعله المنطقة إلى سحابة من الغبار والدماء. 

في تلك الحادثة فقدَ رائد ساقه اليُمنى، وشهد مصرع اثنين من زملائه على الفور، بينما نجا ابناه من الموت ليفقد أحدهما ساقه أيضًا. لم تكن تلك الحادثة الأولى التي تشهدها العائلة تحت القصف؛ فقبل أشهر، في الرابع من يوليو، قُتِل ابنه البكر بصاروخٍ إسرائيلي.

"كان ألمي الوحيد هو فقدان ابني حتى أُصبت وبُترت ساقي فتضاعفت آلامي"، يقول أبو الكاس بصوتٍ يخترقه ألمٌ مُزدوج. قضى ثلاثة أشهر في مستشفى الأهلي العربي "المعمداني" وسط مدينة غزة، عايش فيها معاناةٍ أخرى، منها نقص المُسكّنات، وانقطاع المضادات الحيوية، وعملياتٌ جراحية يومية لوقف النزيف الذي لم يتوقف.

خرج أبو الكاس من مستشفى المعمداني بنسبة تشافي 40%، حسب وصفه، تابع علاج جروحه مع ممرض يزوره في غرفته التي أصبح أسيرها فلا يخرج منها إلا لسببٍ طارئ وبمساعدة أحد. 

يُشارك أبو الكاس ابنه، ذات المعاناة في الحجرة المجاورة داخل البيت المتهالك. "المنزل الذي كان يعج بالحركة والسعادة تحوّل إلى بيت أحزان طوال الوقت ما بين أفراد فقدناهم إلى الأبد، وما بين آخرين عاجزين عن الحركة"، يقول الأب الذي قرر كسر جدار عزلته بالتوجه إلى مركز الأطراف الصناعية التابع لبلدية غزة بغرض تركيب طرف يُعينه على مواصلة حياته على نحوٍ أفضل.

في مركز الأطراف الصناعية حيث يتداخل أصوات المراجعين مع صوت الأجهزة والأدوات المساعدة، يتحوّل اليأس إلى إصرار. يقف أبو الكاس مرتديًا قدمه الصناعية، "الطرف الصناعي ليس مجرد قطعة بلاستيك، بل هو أداة تُعيدني إلى حياتي اليومية وتمنحني القدرة على التفاعل مع العالم من حولي"، يقول أبو الكاس بينما يتدرب على المشي بواسطة جهازٍ مؤقت.

ويُردف الرجل الذي ما يزال يستيقظ ليلًا ليلمس قدمه المبتورة: "المشكلة ليست في تركيب الطرف، بل في تقبّله"، فهذه "الخدعة العصبية" كما يسميها الأطباء، تجعل الكثيرين يشعرون بألمٍ في أطرافٍ لم تعد موجودة، وهي ظاهرةٌ تتفاقم مع انعدام الجلسات النفسية المتخصصة.

ومع ذلك، تحمل جلسات أبو الكاس اليومية مع المختصين تناقضًا غريبًا: كل خطوة تسبقها آلامٌ جسدية، لكن تليها ابتسامةٌ تذكّر بذلك الرجل الذي كان يعمل في وظيفته بشكلٍ دؤوب دون كلل أو ملل.

وفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، فإنَّ 4500 حالة بتر سُجلت في غزة منذ بداية الحرب، 48% منها نساء، و20% أطفالٌ لم يُكمل بعضهم عامه الخامس. لكن خلف هذه الأرقام، تتجسد معاناة مضاعفة وسط حاجة ماسّة إلى تركيب أطراف صناعية. 

حسني مهنا، مسؤول الإعلام في مركز الأطراف الصناعية، يقول: "نصنع الأطراف محليًا من مواد بدائية، بسبب إغلاق المعابر وعدم السماح لإدخال المعدات الطبية".

وبحسب مهنا، من بين 600 حالة مسجّلة في المركز، تلقّى 50 فقط أطرافًا صناعية، بينما ينتظر الباقون دورهم تحت ضغطٍ نفسي عالٍ في ظلّ نقص المواد الخام، وتباطؤ التصنيع، وتعقيدات التأهيل النفسي والجسدي التي قد تمتد لستة أشهر وسط أوضاع أمنية صعبة جرّاء استمرار الحرب.

غير أنّ هناك معضلة أخرى، يشير إليها مهنا، وهي أنّ الأطراف الصناعية التي تُصنّع محليًا، وإن كانت تُعيد بعض القدرة على الحركة، تظلّ حلولًا مؤقتة، لافتقارها الكفاءة والجودة العالية.

في قاعة العلاج الطبيعي، تتحرك فرح أبو قنيص (21 عامًا) بعكازين، محاولةً استعادة توازنها بعد أن فقدت ساقها اليسرى في قصفٍ طال منزل نزحت إليه في دير البلح وسط قطاع غزة. 

"بقيتُ يومين في قسم الاستقبال بالمستشفى دون تلّقي أي خدمة طبيّة فتضاعفت آلامي بشكلٍ هائل"، تتذكر فرح التي اضطر الأطباء لبتر ساقها بعد ثلاثة أشهر من المحاولات الفاشلة في علاجها. 

أما اليوم، وبعد أن انضمّت أبو قنيص إلى قافلة مراجعي المركز، تحاول إقناع نفسها بأن الطرف الصناعي سيعيد لها سلاسة الحركة التي فقدتها. كل محاولة تمرين فاشلة تُذكّرها بذلك اليوم الذي فقدت فيه ساقها، لكنّها أيضًا تدفعها إلى التحدي: "أريد أن أمشي دون أن يُشفق عليّ أحد". 

في زاوية من المركز، يتحرّك الطفل صلاح الدين قزاعر (4 أعوام) بقفزاتٍ متتالية، مُتجاهلًا الكرسي المتحرك الذي تتركه عمّته خلفه. "هو الناجي الوحيد من عائلتنا"، تقول العمّة التي فقدت شقيقها وزوجته وابنتيهما في القصف ذاته الذي أودى بساق الطفل.

حاول الأطباء إنقاذ صلاح بتركيب ما يعرف بالـ"بلاتين" (أسياخ معدنية لمساعدة العظام على الالتئام)، لكن الإغلاق المستمر للمعابر حال دون سفره لاستكمال علاجه خارج القطاع. الآن، وبعد عامٍ ونصف من الانتظار، ما يزال صلاح الدين يحدّق في الأطفال الذين يلعبون بالخارج، بينما تحوّلت خطواته إلى قفزات لا تمكّنه من الركض.

تُعلّق الطبيبة أماني الحداد، رئيسة قسم العلاج الطبيعي، على الحالات التي تراها يوميًا قائلةً: "الجروح الجسدية أسهل من النفسية بكثير. هؤلاء لا يحتاجون إلى أطراف صناعية فحسب، بل إلى إعادة تأهيل نفسي كامل". تُشير إلى جهاز تدريب قديم: "هذا كل ما نملكه لبناء العضلات المتبقية. لو يسمح الاحتلال بدخول الأجهزة المطلوبة في الوقت الراهن، حتما ستصبح الأوضاع أفضل بالنسبة لهؤلاء الأشخاص".

هنا، حيث تُقاس النجاحات بالسنتيمترات التي يقطعها المريض دون مساعدة، تُصبح الحياة اليومية صراع من نوعٍ آخر. لكنها أيضًا تتحوّل إلى دليلٍ على أنّ الحرب، رغم قسوتها، لم تستطع أن تبتر إرادة أولئك الذين قرروا أن ينهضوا من تحت الركام خطوةً واحدة في كل مرة.

 

موضوعات ذات صلّة:

بتر الأطراف: إرث الحرب الأشد ألماً

ذوو الإعاقة.. عن تحدّيات النجاة وحفظ الكرامة

مبتورو الأطراف: صعوبة في تقبل الواقع الجديد

الأطراف الصناعية سهلة التركيب تمنح الأمل لآلاف مبتوري الأطراف في غزة

الأطراف الصناعية... حلم آلاف المبتورين المؤجل في قطاع غزة