صيادو غزة: البحر مفتوح على الموت والرماد

صيادو غزة: البحر مفتوح على الموت والرماد

يقف الصياد محمود الهسي (35 عامًا) عند حافة الميناء في غزة، ينظر بحسرّة إلى بقايا مركبه المحترق بعد أن كان مصدر رزقه الوحيد. بعد عمل في هذه المهنة التي ورثها عن أبيه وأجداده مذ كان طفلاً، لم يعد يملك اليوم سوى الذكريات.

الحسكة، والمحرك، وشباك الصيد، كلها أدوات أصبحت أنقاض جرّاء الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023. يُقدَّر الهسي خسارته بـنحو 30 ألف دولار؛ لكنّ الرقم لا يعكس حجم الضرر الذي حلّ به. "كنت ريسّ في البحر"، يقول بصوت مبحوح، "جمعنا قيمة هذا المركب على مدار سنوات طويلة، ثم فجأة عدت إلى نقطة الصفر".

يحاول الصياد الهسي الانخراط في أعمالٍ أخرى؛ لكن دون جدوى بسبب تردي الوضع الاقتصادي وحالة الاضطراب التي يعانيها السوق، حتى تلك البسطة الصغيرة التي أقامها لبيع المواد الغذائية لم تؤمن لأسرته المكونة من 4 أفراد لقمة العيش.

هذا ليس الصياد الوحيد الذي يواجه تحدي انعدام فرص العمل وفقدان المعدات، فهناك المئات من الصياديين يعانون ظروفا مشابهة بفعل الممارسات الإسرائيلية والاستهداف المتكرر.

يقول زكريا بكر، منسق لجان الصيادين الفلسطينيين، لقد قُتل 55 صياداً خلال الحرب الإسرائيلية الحالية، فيما دُمّرت تقريباً كل مراكب الصيد، بقيمة خسائر تفوق 7 ملايين دولار.

وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء، فقد بلغ عدد العاملين في قطاع الصيد حتى عام 2022، حوالي 5606 شخص، من بينهم 3606 صياد، وحوالي 1500 شخص ذو صلة بقطاع الصيد.

وقبل اندلاع الحرب، كان قطاع الصيد في غزة يُنتج 4 إلى 5 آلاف طن من الأسماك سنوياً، مساهماً بـ 20% من الاحتياجات المحلية. لكن اليوم، لا تتجاوز الكميات المُتاحة 2% بواقع فقدان نحو 4,600 طن من الإنتاج السمكي.

يُشير بكر إلى أنّ أنواع الأسماك التي كانت متوفرة مثل السردين، الحبار، السلطعون أصبحت نادرة في الوقت الراهن، ويجد الصيادون صعوبة بالغة في ركوب البحر، بفعل الاستهداف المتكرر.  

مفلح أبو ريالة (47 عاماً) صياد أخر قال إن عائلته خَسِرت مراكبها وقد كان يقتات على عائداتها نحو 75 فرداً، بينهم 30 صياداً. وتجاوز سقف الخسائر 150 ألف دولار: مراكب، مواتير، شِباك، جميعها قال إنها احترقت.

"الموت أهون عليّ من الابتعاد عن البحر"، يقول أبو ريالة، الذي عمل صياداً منذ كان في الثانية عشرة من عمره. يُردف: "أصبحت الآن أقف في طابور "التكية" أنتظر وجبة غذاء لأطفالي. وأصبحت ظروفنا المالية تحت الصفر".

على نحوٍ غير بعيد، يدخل الصياد علي العامودي (51 عاماً) الميناء بين الحين والآخر، يتأكد من حجم الخراب الذي لا يزال قائماً مع استمرار الحرب. يقول: "أول مرّة دخلت الميناء بعد الحرب، بكيت بكاءً مريرًا، لم أتعرّف على شكله بعدما مسحوا كل شيء".

كان العامودي يملك مركباً كبيراً وستة مراكب صغيرة، بقيمة ربع مليون دولار، جمعها على مدى 20 عاماً من العمل في البحر. أما اليوم، أصبح يعتمد على المساعدات الإغاثية لإطعام أسرّته، وهي أيضا تعطلت الآن بفعل إغلاق المعابر.  

العامودي حاول العودة إلى العمل في البحر خمس مرات؛ لكنّه في كل مرة يُغادر محملاً بالخيبة، فالبحر، الذي كان يسدّ رمق عائلته، أصبح منطقة محظورة. فيما يواجه الصيادون الذين يجرؤون على الاقتراب من مياه البحر إطلاق نار أو الاعتقال.

والمتتبع لسلسلة الاستهداف الذي طال قطاع الصيد البحري، يجزم إنها لم تكن عشوائية، ففي محافظة رفح وغزة وشمال القطاع، لم يترك الاحتلال شيئاً قائماً، وفق ما قاله منسق لجان الصياديين: المراكب، المخازن، غرف الصيادين، مصانع الثلج، حتى اللسان البحري للميناء كلها أصبحت أثرًا بعد عين. فيما بلغت نسبة الدمار في دير البلح وخانيونس 30 إلى 40%. يُعقّب بكر: "الاحتلال يريد اقتلاع قطاع الصيد من جذوره".

واختصر بكر طرق تدمير الاحتلال لهذا القطاع بثلاث ممارسات: الحصار البحري، المصادرة والتخريب، ومنع إدخال معدات الصيد.

وتابع قوله: "الصيادون الذين يغامرون بالنزول إلى البحر لا يتجاوزون مسافة 600 متر ابتعادا عن الشاطئ، ومع ذلك يسقط منهم أشخاص بشكل شبه يومي".

يتفق مدير وحدة الحقوق الاقتصادية في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان فضل المزيني، مع سابقه، في وصف ما يجري بأنه "إبادة بيئية"، موضحاً أن حرمان الصيادين من البحر ليس مجرد تدمير لوسائل العيش؛ بل هو هجوم على الحقّ في الغذاء والكرامة، وهو انتهاك صارخ للقانون الدولي.

وتلزم اتفاقية جنيف الرابعة الاحتلال بحماية المدنيين ومصادر عيشهم، وتحديدًا المادة 54 من البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف التي تحظر تدمير الموارد الأساسية للبقاء، مثل مرافق الصيد.  

ووفقاً للمزيني، فإنّ ما تفعله إسرائيل يندرج تحت "جرائم الحرب" حسب المادة 8 من ميثاق روما؛ يردف: "لكن القوانين لا تعني شيئاً دون آلية للتطبيق في غزة".

وبحسب مراقبين، فمن المتوقع أن يستغرق قطاع الصيد وقتًا طويلاً لإعادة بناء بنيته التحتية واستعادة قدرّاته الإنتاجية السابقة، خاصة في ظلّ استمرار القيود الإسرائيلية المفروضة على مساحة الصيد والموارد المتاحة.​

الصيادون مثل الهسي والعامودي وأبو ريالة لم يعودوا ينتظرون العدالة. هم فقط يريدون العودة إلى البحر دون قيد أو مخاوف من القتل.