غزة: شكاوى حول قانونية إيقاف عقود المذيعين

غزة: شكاوى حول قانونية إيقاف عقود المذيعين

في غرفة صغيرة بمنزله في مدينة غزة، يجلس تامر عليان أمام شاشة هاتفه الذكي، يتابع آخر الأخبار بنبرة المذيع المحترف التي لم تُفارقه على الرغم من توقف الميكروفون. لم يخطر بباله، بعد 14 عامًا من العمل في إذاعة "صوت الوطن" المحليّة، أن ينتهي به المطاف عاطلًا عن العمل، دون حقوق أو تعويضات.

"كنا نعتقد أنَّ الإذاعة بيتنا الثاني"، يقول عليان، بينما يُقلّب بين أصابعه ورقة المخالصة المالية التي وقعها مُكرهاً في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، في الشهر الثاني من الحرب الإسرائيلية المستمرة حتى اليوم. "لم يكن أمامنا خيار، إمّا التوقيع على مستحقات مُتأخرة، أو لا شيء".

الورقة التي وقّع عليها عليان، كما يصفها، كانت "بيضاء" – بلا تفاصيل قانونية واضحة – إلا من بندٍ غامض: "الأولوية للطاقم القديم إذا عادت الإذاعة للعمل"؛ لكن العودة للعمل في ظلّ الدمار الحاصل في غزة اليوم، تبدو ضربًا من الخيال.

مثل تامر ثمانية موظفين اخرين، بين مذيعين ومهندسي صوت، وجدوا أنفسهم فجأة بلا مصدر رزق.

دعاء عفانة، أم لطفلين، عملت مذيعة وسكرتيرة في الإذاعة ذاتها منذ 2018. عندما طُلب منها التوقيع على المخالصة، ظنّت أن الإذاعة ستعود حتمًا بعد الحرب. وعلى الرغم من حصولها على رواتبها المتأخرة منذ أشهر فقط؛ لكن الورقة نصّت على تنازلها عن جميع المستحقات، حسب تأكيدها.

"كيف أتنازل عن حقوقي وأنا أعلم أنني لن أعود؟"، تسأل عفانة التي شكّل لها القرار صدمة كبيرة، خاصّة أنّه تركها في حالة من الضياع والتشتت ووضع مالي غير مستقر البتة بعدما انضمّت إلى صفوف البطالة.

وسام زغبر، مدير الإذاعة، قال إنّ القرار عائد إلى التحوّل من البث الإذاعي إلى النشر الإلكتروني بعد عشرة أيام من اندلاع الحرب، وبخاصة عندما أصبح الاستوديو هدفًا محتملاً للقصف.

"لم نعد قادرين على العمل المباشر"، يقول زغبر، الذي يؤكد أنَّ الإذاعة أوقفت الرواتب لكنّها "ستعيد التوظيف عند العودة للبث الإذاعي".

ويشير إلى أنّ الإذاعة ضمّت بعض العاملين في العمل الإلكتروني، غير أنّ هناك عدد آخر ليس لديه خبرة في إعداد التقارير المكتوبة للنشر الإلكتروني، وفقً قوله.

في المقابل يصف العاملون السابقون في الإذاعة، القرار بـ"التعسفي" خاصّة أنّه يأتي في ظلّ الحرب وحاجتهم الماسّة للعمل، ويجدون في الورقة التي وقعوها ما ينزع عنهم حقوقهم القانونية، "خاصة مكافأة نهاية الخدمة التي هم في أشدّ الحاجة إليها في ظلّ غلاء المعيشة الباهظ" حسبما قالوا.

ويشكو العاملين من توقيت القرار الذي جاء وقطاع غزة يعاني من أزمة اقتصادية وإنسانية خانقة، تجاوزت على إثرها نسبة البطالة 82% وشهدت فيها أسعار السلع الأساسية ارتفاعًا حادًّا أدى إلى تراجع القوة الشرائية بنسبة 70% ما يعكس تدهورًا كبيرًا في القدرة على تلبية الاحتياجات اليومية.​

ليست "صوت الوطن" وحدها التي اتخذت قرارًا بإيقاف موظفيها عن العمل. فمن بين 20 إذاعة محليّة تبث عبر موجة "إف إم" الأرضية في قطاع غزة قبل الحرب، سلكت إذاعة "صوت نماء" منحى مُطابق لسابقتها. ففي فبراير/شباط 2024، فسخت الإذاعة عقود موظفيها، الذين كان من بينهم تماضر طنبورة التي عملت ثلاث سنوات معدّة برامج.

"كنت أتلّقى راتبًا بقيمة 150 دولارًا شهريًا، ثم توقف كل شيء"، تقول طنبورة، التي تُنفق الآن مدخراتها البسيطة على مصروف البيت. علما أنّ الراتب الذي كانت تتقاضاه كان بالكادّ يكفي لتوفير أبسط احتياجات العائلة قبل الحرب؛ لكنَّ فقدانه حوّلها إلى عاطلة بين ليلة وضحاها وفاقم أزمتها الماديّة.

عاهد فروانة، أمين سر نقابة الصحفيين الفلسطينيين، يتحدّث بقلقٍ واضح عن هذا النمط المتكرر: "إنهاء خدمات الصحفيين بهذه الطريقة يمثل تهديداً مزدوجاً - فقدان صوت فلسطيني يوثق المعاناة، وفقدان مصدر رزق لعائلات في أمس الحاجة إليه".

ويؤكد فروانة أنّ المؤسسات الإعلامية مُطالبة اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى بحماية صحافييها، على الرغم من الدمار الذي لحق بمقرّاتها واضطرارها للعمل من المستشفيات ومراكز الإيواء.

النقابة، كما يوضح فروانة، تملك آلية للدفاع عن مثل هذه الحالات عبر لجنة حقوق الصحفيين التي كانت تحلّ عشرات القضايا قبل الحرب. "كنا نستقبل شكاوى مكتوبة، نتحقق من العقود، ونعمل كوسيط لحلّ النزاعات"، يقول فروانة.

اليوم، على الرغم من القصف والنزوح، لا تزال النقابة تعمل من مراكز مؤقتة في دير البلح وخانيونس وغزة. فيما يُشدد فروانة على أنّ "أي صحفي يتعرّض للفصل أو الانتهاك يمكنه التوجه إلينا".

لكنّ المفارقة أنَّ النقابة لم تتلق سوى شكاوى قليلة من صحفيين في مؤسسات دولية حول تأخر الرواتب، وهو ما يعكس رغبة العاملين في الإذاعات بالتزام الصمت حيال قضيتهم، ربما نظراً لحساسية التوقيت، أو خشيّة من فقدان فرصة العمل مجددًا في حال استأنفت الإذاعات عملها.  

المحامي علي الجرجاوي من مركز الديمقراطية وحقوق العاملين يُؤكد أنَّ خطوة إنهاء العقود "غير قانونية"، حتى في ظلّ الحرب. مشيرًا إلى قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس رقم (34) لسنة 2023 الذي جمّدَ مُدد التقادم؛ يعني أنَّ حقوق العاملين لا تسقط؛ لكن القانون، كما يفيد الجرجاوي، صامت أمام إجراءات التسريح الجماعي أثناء الكوارث. 

"لو قدّمت الإذاعة إشعارًا مكتوبًا قبل شهر، وكانت المخالصة واضحة، لكان الأمر مختلفًا"، يقول الجرجاوي الذي نوّه إلى أنّ المادة (51) من قانون العمل تسمح بإنهاء العقود بسبب الخسائر، لكن بشروط: إخطار مسبق ودفع المستحقات.

يردف الجرجاوي: "أما ما حدث في إذاعات بغزة كان العكس متمثلًا بقرارات مفاجئة، وأوراق غير واضحة، وعمال يُتركون في مهب الريح، يُعد انتهاكًا لحقوق العاملين ومخالفة لقانون العمل الفلسطيني".

ولا يزال الكثير من العاملين في الإذاعات المحلية، يحتفظون ببطاقاتهم الوظيفية انتماءً للكلمة- التي دفع الكثير من الصحفيين ثمنها- رغم أنّهم يعلمون بصعوبة استئناف العمل وربما استحالته في الوقت القريب. بينما يبحث آخرون عن عملٍ في مجالاتٍ أخرى. فالحرب لم تُنهِ البث الإذاعي فحسب، بل أنّهت أيضًا ثقة الكثيرين في أنّ الإعلام سيظل صوتهم الأخير.

 

موضوعات ذات صلّة:

شركات "توقف" رواتب موظفين نزحوا إلى خارج غزة

"أونروا" تُعاقب موظفيها العالقين بالراتب