في خيمةٍ من القماش المهترئ بمنطقة النزوح المؤقت في دير البلح وسط قطاع غزة، يجلس محمد الأحمد (20 عامًا) أمام شاشة هاتف محمول يعطبها التشقق، يحاول عبثًا متابعة محاضرة الطب التي يفصله عنها أكثر من مجرد اتصال إنترنت متقطع. قبل أشهر، كان هذا الطالب في السنة الثانية بجامعة الأزهر يحلم بأن يصبح جراحًا، أما اليوم، فقد تحوّل حلمه إلى رفاهية لا قدرة له على تحقيقه.
"ثمن الساعة الدراسية الواحدة تساوي قيمة وجبتين لعائلتي"، يقول الطالب الأحمد، بينما ينظر إلى والده الطبيب الذي يرقد على فراش من النسيج، يعاني من ذبحة صدرية أصابته بعد النزوح الخامس.
تُظهر البيانات أن قيمة رسوم الساعة الدراسية في كلية الطب تبلغ 90 دينارًا أردنيًا (129 دولارا)، في حين يشير تقرير البنك الدولي إلى انخفاض متوسط الدخل اليومي إلى أقل من دولارين، يُبرز هذا التفاوت الكبير بين تكلفة التعليم ومستوى الدخل، تحديات اقتصادية قد تؤثر على إمكانية الوصول إلى الخدمات التعليمية، خاصةً في ظلّ محدودية الموارد المالية للأفراد في مجتمع كقطاع غزة الذي يرزح تحت الحرب منذ نحو عام ونصف.
لقد قمنا بتحليل القيمة الشرائية لـ 127 دولارًا مقارنة بمتوسط الدخل اليومي (أقل من دولارين)، فوجدنا أن ساعة تعليم واحدة في كلية الطب تعادل دخل شهرين كاملين من العمل (بمتوسط 30 يومًا شهريًا).
وعاد التعليم الجامعي الإلكتروني في يناير 2024 - عبر تطبيق واتساب وبث محاضرات مسجلة – لكنه شكل عبئا إضافيا بالنسبة للطلبة الفقراء، حيث يضعهم تحت الضغط النفسي.
رغم أن هذا الشكل من التعليم الذي اضطرت إليه المؤسسات الجامعية بعد تدمير 12 جامعة على مستوى قطاع غزة، جاء بتسهيلات ضمنية تستوجب دفع 30% من قيمة رسوم الفصل الجامعي على أن يجري تسديد المتبقي من المبلغ خلال 4 أشهر (مدة الفصل الدراسي)، إلا أنه تسبب في تسرُّب نحو 62% من الطلبة، حسب إحصاءات غير رسمية اطلعت عليها "آخر قصة".
"كنا نظن أن الفصل المجاني الأول كان بداية التعافي"، تقول سهى عرفات (21 عامًا)، طالبة الصيدلة التي اضطرت للتوقف عن التعليم بعد أن فقد والدها – موظف البلدية – راتبه منذ أكتوبر 2023.
تحاول سهى إخفاء دموعها وهي تشرح كيف تحول طموحها بإقامة صيدلية إلى مجرد ذكرى: "حتى عندما حاولت بيع الملابس عبر الإنترنت، لجمع المال الذي يُمكنني من العودة لمقاعد الدراسة أُغلق المعبر وحطَّم أحلامي مع شحنة البضائع".
عمار حامد (23 عامًا)، طالب الهندسة الذي تحوَّل إلى بائع مواد تنظيف على عربةٍ خشبية، يُلّخص الواقع والحزن يبدو على ملامحه: "نحن نختار بين شراء الحطب للطهي ودفع رسوم المحاضرات".
اضطر حامد للانخراط في سوق العمل لإعالة أسرته، بعدما توقف راتب والده الذي يعمل في القطاع الحكومي منذ ثمانية أشهر - وهو المصير ذاته الذي يُشاركه فيه 72 ألف موظف من أصل 85 ألفاً في قطاع غزة، وهما ما يُمثلون نسبة 85% من الموظفين توقفت رواتبهم جرّاء الحرب، وفقًا لإحصاءات وزارة المالية؛ ما يٌشير إلى ضعف مقدرتهم على دفع الرسوم الجامعية لأبنائهم.
في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، حيث صارت الحياة اليومية معركة للبقاء، تتحوّل ربا عبد الله (20 عاماً) إلى أيقونة لجيلٍ بأكمله. بعد أن فقدت شقيقها - المعيل الوحيد للأسرة - في قصفٍ دمّر منزلهم بالكامل، صارت فكرة تسجيل مساقاتها في تخصص الوسائط المتعددة بجامعة غزة أشبه بالمستحيل.
"كيف أجرؤ على الحديث عن رسوم جامعية بينما نعجز عن تأمين ثمن رغيف الخبز؟" تسأل ربا وهي تمسك بهاتفها الخالي من الشحن، ذلك الجهاز الذي صار امتلاك بطاريته مشحونة رفاهية لا تقدر عليها. فحتى 30 شيكل (أقل من 10 دولار) التي تكلفها شحنة الهاتف الشهرية في نقاط الشحن، تُشكِّل عبئاً على عائلة تعتمد الآن على المساعدات الغذائية الطارئة.
تلك ليست مجرد قصص فردية، بل نموذج لأكثر من 35 ألف طالب في قطاع غزة، وفقًا لإحصاءات وزارة التعليم العالي، وجدوا أنفسهم أمام خيارين: إما التعليم وإما تلّبية الحاجات الأساسية للحياة. ما لا تقوله الأرقام هو أن كل طالب يتخلى عن تعليمه يحمل معه أحلام عائلة بأكملها كانت تعوّل عليه لانتشالهم من قبضة الفقر، لاسيما أنّ 82% من سكان غزة يعيشون تحت خط الفقر.
في ظلّ هذه الأرقام، تصبح معاناة الطلبة الجامعيين جزءًا من واقع أشمل يظهر كيف تحوّل التعليم من حق أساسي إلى مستحيل، وكيف صارت الأولوية اليومية هي مجرد البقاء على قيد الحياة في ظلّ حرب وصفتها المنظمات الحقوقية بأنّها حرب "إبادة شاملة".
الخبير الاجتماعي والنفسي عرفات حلس يُحذِّر من تدّاعيات هذا الانهيار التعليمي، يقول: "هؤلاء الطلبة لا يفقدون سنوات الدراسة فقط، بل يفقدون إيمانهم بالمستقبل".
ويوضح حلس أنّ ما يبدأ كأزمة تعليم سرعان ما يتسرّب إلى شرايين المجتمع كلها؛ فخلف كل طالب يتخلى عن مقعده الدراسي في غزة، تتهاوى سلسلة من الكوارث الخفية: فتياتٌ يُجبرن على الزواج المبكر ليقللن أعباء الأسرة، وشُبان يتحولون إلى عمالة رخيصة، وأسرٌ بكاملها تفقد آخر أمل في انتشال نفسها من الفقر.
وتُشير ملاحظات حلس الميدانية إلى أنّ 73% من الطلبة الذين قابلهم يعانون من أعراض اكتئاب حادّ، بينما لجأ 40% منهم إلى العمل وبعضهم يعملون في مهنٍ خطرة مثل تجميع الحطام من المنازل المدمرة لبيعه كوقود.
وراء قرارات الجامعات فرض الرسوم على الطلبة الذين يعانون من أجل شراء رغيف خبز، تقف مجموعة من المبررات، فسرها عدنان العجرمي من العلاقات العامة والإعلام في جامعة الأزهر بغزة قائلاً: "نضطر لدفع رواتب موظفينا كل 67 يوماً، وبأقلّ من نصف القيمة الأصلية. نعلم أنَّ الطلاب جيوبهم خاوية، لكننا إن لم نُطالب بهذه الرسوم، لن تعود هناك جامعة لأيٍّ كان".
وأوضح العجرمي في سياق حديثه مع ـمراسلة "آخر قصّة" أنّ القطاع الخاص التعليمي في غزة يعتمد كليًا على رسوم الطلبة بعد توقف الدعم الخارجي بسبب الحرب، مؤكدًا أنّ الجامعة تحاول مساعدة الطلبة قدر الإمكان في ظلّ عدم وجود جهات داعمة أو ممولة، فلا يُطلب منهم سوى دفع 30% من قيمة الرسوم المستحقة مقسطة على مدار الفصل الدراسي الواحد، أما بقية الرسوم تُرَحل لآخر سنة دراسية يدفعها الطالب عند تخرجه.
التجربة ذاتها تؤكدها الجامعة الإسلامية، حيث يُشير زهير الكردي من عمادة القبول والتسجيل أنّهم سمحوا بتسجيل "12 ساعة فقط" كحدّ أدنى، مع إمكانية تحويل الرسوم عبر التطبيقات البنكية في ظلّ أزمة السيولة النقدية التي يعاني منها سكان القطاع، لكنَّ وفقًا لشهادات الطلبة الذين قابلناهم فإنّ هذه التسهيلات تبقى حلولًا مؤقتة لا تُؤتي ثمارا أمام كارثة إنسانية أوسع.
ينصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته 26 على أنّ: "لكل شخص الحق في التعليم"، لكن في غزة اليوم، صار هذا الحق حبرًا على ورق. فبينما تلتزم المنظمات الدولية بخطاباتها بحماية هذا الحقّ، تواجه مساعداتها عوائق سياسية وعملية كشروط تعليق الدعم على وقف إطلاق النار؛ ما يجعل حتى الحزم الإغاثية التعليمية غير مضمونة.
رئيس جامعة فلسطين الدكتور جبر الداعور أوضح هذا التناقض بألم قائلاً: "نتحاور مع منظمات دولية تعدنا بالدعم، لكنهم يربطون كل شيء بوقف الحرب، كأنّهم يطلبون من جريح نزف لأشهر طويلة أن يتوقف عن النزيف قبل أن يقدموا له الضمادات!".
في المقابل، حاولت مراسلة "آخر قصة" التواصل مع وزارة التربية والتعليم؛ للتعرّف على خططهم لدعم طلبة قطاع غزة؛ لكن رفض وكيل الوزارة بصري صالح الإدّلاء بأيّ تصريح وتقدّيم إجابات بهذا الشأن.
تبقى الصورة الأكثر قسوة تلك التي يرسمها الطالب الجامعي محمد أحمد وهو يغلق هاتفه المحمول بعد محاضرة لم يستطع تركيز فيها: "أحيانًا أتمنى لو أن القصف أنهى حياتي كي لا أشعر بالذنب لكوني عبئًا على عائلتي". لعلّ هذا الواقع، يُظهر العبء الاقتصادي الهائل للتعليم في ظلّ انعدام الدخل، مما يستدعي إعادة تقييم قيمة الرسوم الدراسية لطلبة الجامعات وإجراء تدخل رسمي عاجل لإعادة إنعاش أحلام الطلبة، من أجل ضمان تحقيق العدالة الاجتماعية.
موضوعات ذات صلّة:
بدون إنترنت: التعليم أصبح رفاهية في غزة
افتقار مراكز النزوح للإنترنت يعيق التعليم
آخر الخيارات: الكتب وقود للطهي
بسحق المراجع العِلميّة: غزة تواجه فقراً بحثياً
رسوم الجامعات في غزة.. كابوس يؤرق الطلبة
طلاب الجامعات في ظل الحرب.. استنكاف وتأجيل وعجز عن تحمل تكاليف التعليم
الطلبة الجامعيين في قطاع غزة