كلما رأيتُ طفلًا يُبتر أحد أطرافه في غزّة، يعود إليّ مشهدٌ قديم من فيلم شاهدته قبل أعوام، اسمه Wonder عن طفل وُلد بتشوّهات خلقية حادّة في وجهه. لم يكن فيلمًا عن الشفقة، بل عن ذلك الإدراك البطيء والمؤلم للاختلاف، حين يبدأ الطفل شيئًا فشيئًا بالاصطدام بما يعكسه العالم عنه. كتبتُ يومها مقالة، حاولتُ فيها أن ألامس الطريقة التي يتشكّل بها وعي الطفل بجسده المختلف. كيف يتعلّم أن يرى نفسه، وكيف يتحمّل نظرة الآخرين إليه.
كنتُ أؤمن آنذاك أنّ الأطفال يملكون قدرة مذهلة على التكيّف. وكنتُ على حقّ جزئيًّا. لكنني لم أكن أعرف بعد أنّ الفرق بين مَن يولد باختلافٍ جسديّ ومَن يُسلب منه جسده فجأة، هو فرق الهاوية.
الأوّل، حتى حين يُولد بجسدٍ غير مكتمل، يعيش مع هذا الجسد منذ البداية، يُصادقه أو يخاصمه، لكنه يعتاده تدريجيًا، ويَبني وعيه ضمن حدوده. وقد يُتاح له دعمٌ أسريّ أو نفسيّ يساعده على فهم مكانه في العالم دون أن ينكسر تمامًا.
لكنّ الطفل الغزّيّ..
الذي كان يركض، ثم لم يعد قادرًا على الركض.
الذي كان يحمل حقيبته، ثم لم يعد له ذراع.
الذي كان يكتب على السبورة، ثم فقد أصابعه.
هذا الطفل، لا تدرّج في تجربته، لا مهلة لهضم الفقد، لا استعداد داخليّ. فقط لحظة واحدة، لحظة انفجار، تقلب الصورة، وتقتلع الجسد من ذاته.
أتذكّر طفلةً غزية رأيتها مرّة في مقطع قصير. كانت تجلس إلى جوار والدتها، ساقها مبتورة، وجهها هادئ كأنّه لم يعتدِ عليه الألم بعد. كانت الأمّ تحكي عنها بصوتٍ يتهدّج :"كل يوم بتسألني، بتقولي: ماما، لما أشفى، بتطلع رجلي مرّة تانية؟"
لم يكن السؤال نواحًا، بل سؤالًا طفلًا، شفافًا، فيه من البراءة ما يكفي لكسر القلب. لم تكن الطفلة تدرك بعدُ أنّ هناك أشياء لا تعود، أنّ الجسد حين يُبتر لا ينبت من جديد كأغصان الشجر. كان بين جسدها الحقيقيّ وجسدها المتخيّل فجوة لم تسقط فيها بعد، لكنّها قريبة.
الطفولة لا تتقبّل الفقد كفكرة نهائيّة. تظنّه غيابًا مؤقتًا، مرضًا سيزول، شيئًا يُعاد إلى مكانه بعد قليل. لكن لحظة ما ستأتي. لحظة تتفكّك فيها الأوهام الطفولية، ويُدرك الجسد الناقص أنّه لن يكتمل، وأنّ ما مضى لن يُستعاد.
حين أكتب عن تلك الطفلة، أعود بذاكرتي إلى غرفة صفّ صغيرة. كنتُ أجلس فيها وحدي، بينما زميلاتي في حصة الرياضة. لم يكن بقائي في الصف خيارًا. منذ الولادة، وُلدتُ بإعاقة حركيّة في اليدين، سببها نقص في الأكسجين أثناء المخاض. هذا النقص ترك أثره على حركة يديّ، فصارتا تتحرّكان، نعم، لكن بمدى محدود. كأنّ بيني وبين العالم حاجزًا رقيقًا من العجز، لا يُرى لكنه يُحسّ؛ لا يمنعني تمامًا، لكنه يُبطئني، يُقيدني عن الحركات الصغيرة التي تصنع الفرق: أن أصفّ أصابعي كما يجب، أن أرفع يديّ عالياً، أن أمسك بالكرة مثل البقيّة. لم أبكِ. لم أُظهر رفضًا. فقط كنتُ هناك. أراقب، وأسكت.
تكرّرت هذه اللحظات: أنا في مكاني، وهنّ في الجهة الأخرى من الحركة واللعب. كان التكرار هو ما علّمني الفرق. لا صدمة، بل تسلل هادئ للفهم. أنّني مختلفة. أنّني لستُ جزءًا من اللعبة.
ما شعرتُ به لم يكن ألمًا جسديًا، بل شيء أعمق: حسّ داخليّ بأن هناك حدودًا لجسدي لا يراها أحد، لكنها تزن الوجود. أنني، وإن مشيتُ وضحكتُ، أحمل في أطرافي ما لا يُشفى.
وحين أنظر اليوم إلى أطفال غزّة، أعي تمامًا أنّ تجربتهم أقسى. أنّ الألم عندهم يتضاعف: ألم الفقد، وألم الوعي بالفقد. أنّهم لا يبدؤون من النقص، بل ينتهون إليه.
لكن رغم كلّ هذا، ثمّة خيط بيننا. خيط من المعرفة: معرفة الجسد حين يُغدر به. حين يتحوّل من بيتٍ إلى عبء. حين يُجبرك على أن تُعيد تشكيل نظرتك إلى نفسك.
لا تكفي لهؤلاء الأطفال أطراف صناعية. ولا تكفيهم كلمات صالحة للعزاء. ما فقدوه ليس فقط أذرعًا أو سيقانًا، بل الأمان الداخليّ الذي كان يجعل أجسادهم مكانًا آمنًا لهم. ما يحتاجونه هو الوقت، والاعتراف، والمساحة ليُرمّموا ما تكسّر في الداخل. أن يُقال لهم: ما حدث ليس ذنبكم. وأن يُترَك لهم الوقت ليسألوا، ويبكوا، ثم يعيدوا خلق أنفسهم بطريقة ما.
أرجو لهم أن يُمنحوا ما لم يُمنَح كثيرون: أن تكون لهم حياة، لا نجاة فحسب.
أن يجدوا في أجسادهم، رغم الندوب، مكانًا صالحًا للوجود.
وأن يأتي يوم، تسأل فيه طفلة غزّية سؤالًا لا علاقة له بالساق، بل باللعب، بالحبّ، بالخيال.
سؤالًا عن اسم زهرة، أو عن لون الغيم، أو عن نكتة سمعتها في المدرسة.
سؤالًا لا يصدر عن فقد، بل عن فضول الحياة.
الأطفال المبتورة أطرافهم في غزة