شحن الهواتف: مصروف يستنزف الجيوب الخاوية

 شحن الهواتف: مصروف يستنزف الجيوب الخاوية

إذا كنت تملك القدرة على وصل قابس شحن الهاتف في مآخذ الكهرباء داخل بيتك دون أن تبذل جهداً وعناء كبيراً، فتلك نعمة كبيرة لا يملكها الفلسطيني معتز بكير ولا مئات الآلاف من سكان قطاع غزة.

لقد أصبح البحث عن فرصة لشحن الهاتف النقال في غزة بالطاقة، مصدر عناء وقلق يومي للمواطن بكير القاطن في حين الزيتون جنوب مدينة غزة. يضطر الرجل الذي يعاني قلّة ذات اليد، للمشي ساعاتٍ طويلة بحثًا عن نقطة شحن. ويقول بحسرة: "أحيانا لا يكن بحوزتي شيكلًا لأدفعه لقاء شحن الجوال، لكنّي أضطر لتدبيره وبخاصة أني استثمر شحنه في إضاءة الكاشف ليلاً لأن أولادي يخافون العتمة جداً، لاسيما أن المكان يحيطه الكلاب من كل اتجاه".

هذه المشقة اليومية، استدّعت ظهور مهنة جديدة لم يسبق أن عرفها سكان غزة قبل اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023، ألا وهي مهنة شحن الهواتف والبطاريات عبر الطاقة البديلة بعد قطع كافة خطوط إمداد الكهرباء عن القطاع وتعطّل محطة التوليد الوحيدة.   

واستوجبت تلك المهنة إقامة أكشاك تتوفر فيها ألواح طاقة شمسية وبطاريات يعملون من خلالها على توفير الكهرباء بشكلٍ جزئي لشحن الأجهزة الخلوية والالكترونية؛ لكنّ التكلفة التي يشترطها مُلاك الطاقة البديلة، تشكِّل عبء على الأسر ذات الدخل المحدود أو المعدوم.

والمواطن بكير هو عامل نظافة، يمارس مهامه يومًا أو يومين في الأسبوع على أبعد تقدير نتيجة واقع الحرب، لكنّ الفقر المُدّقع وارتفاع الأسعار يَحولان دون تأمين أبسط احتياجات أسرته.

"أيام عديدة أبقى عاطلًا عن العمل، وغير قادر على توفير شيء للأطفال، هذا هو حالنا"، يضيف بكير، الذي فقد منزله بالكامل جرّاء قصف الاحتلال الإسرائيلي، وأصبح الآن يُقيم مع أسرته المكونة من ثلاثة أفراد في خيمةٍ تفتقر لأبسط مقومات الحياة.

أما سميحة البلعاوي، البالغة من العمر 50 عامًا، والتي تعيش رفقة أبناءها الستة دون مصدر دخل ثابت، فقالت والدموع تغرق عينيها: "لم أتوقع مطلقًا أن تسوء أحوالنا المادية إلى هذا الحدّ، وأن نصل إلى مرحلة لا يتوفر معنا قيمة شحن الهاتف الذي نحتاجه للإضاءة في ساعات الليل الخطرة ". 

البلعاوي التي فقدَت زوجها خلال رحلة نزوح من شمال القطاع، أصبحت المُعيل الوحيد وتعتمد اعتمادًا رئيسيًا على المساعدات الإنسانية التي تحصل عليها من المنظمات المحليّة والدولية، والآن أصبحت تُعاني شُحاً في الغذاء مع إغلاق الاحتلال للمعابر منذ مارس الماضي.

تقول السيدة إنها ُتفاضل بين شراء الخبز والانفاق على المتطلبات الأخرى كالطاقة وغيرها، لكنّها تُفضل الخيار الأول فهو مهم لبقاء أفراد أسرتها على قيد الحياة.

وتفرِض حالة الغلاء المعيشي والارتفاع الحادّ في أسعار بدائل الطاقة من البطاريات والكشافات، حرمان لشريحة كبيرة من سكان القطاع من أبسط مقومات الحياة، وتجعلهم في انقطاعٍ تام من التواصل مع العالم الخارجي، فضلاً عن أنّهم يغطون في ظلام ٍدامس.

بينما تثقل تكاليف شحن الهواتف والبطاريات المُشغِلة للمصابيح (الليدات) الأسر الفقيرة والهشة، وبخاصّة أنّها أضحت تُشكِّل مصروفًا يوميًا، فإنَّها في المُقابل تُشكِّل مصدر دخل للعاملين في تلك المهنة.

يقول عادل نصار (61 عامًا)، صاحب نقطة شحن في بلدة جباليا شمال قطاع غزة، الذي فقدَ متجره في إحدى الغارات: "أحيانًا أحصل على شيكل واحد أو اثنين من المواطنين مقابل شحن هواتفهم وبطارياتهم". نصار، الذي اضطر للنزوح إلى مخيم الشاطئ ثم العودة إلى منزله المدمر، يرى في هذا المشروع مصدرًا ضئيلًا للدخل لكنّه مهم لبقاء أسرته.

وفي حديثه، يعبر نصار عن معاناته محاولاً إخفاء دمعة انسابت من عينه: "الحال صعب، إذا لم نعمل، لا نستطيع توفر لقمة العيش. عندما نزحنا، لأربعة شهور كانت أصعب أيام في حياتنا، لم نستطيع توفير وجبة واحدة لأولادنا"؛ لكنّ نصار، الذي يعيل تسعة أفراد، يظلّ متمسكًا بالأمل، ويفضل أن يقدم خدمة الشحن مجانًا للجيران الذين يواجهون ظروفًا مماثلة.

وفي ظلّ قلّة الدعم والتدخل الرسمي على أرض الواقع للتخفيف من حدّة المعاناة التي يعيشها السكان، يلجأ العديد من المبادرين إلى التكاتف الاجتماعي للتخفيف من الأزمة، بتقّديم الخدمة مجانًا للمحتاجين، ومع ذلك فإنّ هذا الواقع لا ينفي الأزمة أو يضع لها حداً.

إزاء هذا الواقع المأساوي، يرى حقوقيون أن إغلاق الاحتلال الإسرائيلي للمعابر ومنع دخول الإلكترونيات والبطاريات وبدائل الطاقة، يُشكِّل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، خاصة اتفاقيات جنيف.

ووفقًا للمادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة، يتعين على القوة المحتلة تزويد السكان المدنيين بالاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والماء والطاقة. كما أن قطع الكهرباء عن غزة يُمثل انتهاكًا لحقوق الإنسان الأساسية، ويزيد من معاناة المدنيين في ظلّ الأزمات المتعددة. ويُعد هذا الإجراء مخالفًا للمبادئ القانونية التي تحمي المدنيين أثناء النزاعات المسلحة ويؤثر بشكلٍ مباشر على حياتهم وكرامتهم.

وترهن شركة توزيع الكهرباء في قطاع غزة، إصلاح شبكات التوزيع المدمرة، بسماح الاحتلال لها بممارسة مهامها وبفتح المعابر لإدخال معدات الصيانة وإعادة تشغيل خطوط الكهرباء الإسرائيلية أو المصرية اللازمة.

وقال مدير الإعلام في شركة توزيع الكهرباء، محمد ثابت: "أزمة الكهرباء بدأت قبل عشرين عامًا واستمرت لتصبح أكثر تعقيدًا مع مرور الوقت. وقبل الحرب الأخيرة، كان القطاع يعاني من نقص حادّ في الكهرباء حيث كانت الحاجة تصل إلى 550 ميغاواط؛ بينما لم يكن المتوفر في أحسن الظروف يتجاوز 220 ميغاواط."

ويضيف ثابت في حديثه لمراسلة "آخر قصة"،  "منذ بداية العدوان الإسرائيلي، أصبح القطاع بدون كهرباء بشكل كامل. لا توجد مصادر للطاقة سوى ما تبقى من بعض الألواح الشمسية، لكن مع كثافة القصف، تدّمرت هذه الألواح جزئيًا وأصبحت غير قادرة على تلبية احتياجات الناس"، ويشير إلى أن البدائل المتاحة لتوليد الكهرباء قليلة جدًا، ولا تصل إلى الجميع بسبب محدودية القدرة الإنتاجية للطاقة.

تعرّضت شبكة الكهرباء لدمار واسع حيث دُمرت حوالي 70% من الشبكات، و90% من مستودعات ومخازن الشركة، بالإضافة إلى تدمير 80% من الآليات والمركبات الخاصة بالشركة، بحسب ثابت، فيما بلغت الخسائر الأولية في قطاع الكهرباء حوالي 150 مليون دولار.

وحتى مع محاولات شركة توزيع الكهرباء إعادة تأهيل الشبكات، يظلّ الأمر مرهون بفتح الاحتلال للمعابر والسماح بإدخال أدوات ومعدات الصيانة اللازمة. أما فيما يخص عودة الكهرباء للمنازل، أوضح ثابت أن الوضع يختلف من منطقة إلى أخرى. ففي محافظة الوسطى، على سبيل المثال، يمكن توصيل الكهرباء خلال أربعة أشهر إذا توفرت مواد الصيانة. أما في المناطق التي تعرضت للدمار الكامل، فإنه يجب أولًا رفع الأنقاض وإعادة بناء الشبكات قبل أن يتمكنوا من توصيل الكهرباء.

وأضاف ثابت: "إن خطة التعافي المبكر تشمل ثلاث مراحل، الأولى تمتد لستين يومًا، تليها مرحلة إعادة الإعمار والتوسيع التدريجي". لكن يبقى السؤال: هل سيبقى قطاع غزة محاصرًا في الظلام، معلقًا بين المفاوضات السياسية وطول فترة إعادة الإعمار التي قد تمتد لسنوات؟

 

موضوعات ذات صلّة:

هل أصبحت الكهرباء حكرًا على الأغنياء؟

غزة: النساء الفقيرات ومسؤولية تحضير مائدة رمضان  

أصحاب الأفران الصغيرة جنودًا في حرب البقاء

كيف يحصل سكان غزة على الكهرباء وسط الدمار