في كشك جدرانه شوادر بلاستيكية قرب بوابة البيت الجديد حيث أُقيم بعد العودة من نزوحي في الجنوب إلى مدينة غزة، أجلس رفقة محمد أحدّ أبناء أخوالي نحاول التقاط إشارة انترنت. تلك فسحة أخرى من التيه والاضطرار والاستبدال التي صنعتها أيام الحرب، فبعد الغرف والبيوت التي تُشكِّل مساحة الأمان للتواصل عبر الانترنت وغير المكلفة بنفس تكاليف البدائل صارت الأكشاك بديل لكل هذا.
وإن جاز وصف الحالة التي صنعتها الحرب في جملة فقد تصلح جملة "لقد بات الجميع في الشارع" ففي الشارع صار الكشك الصغير هذا بديل الصيدلية، والمحلات سرعان ما تصير في أكشاك من ذات الشوادر البلاستيكية. وتقتضي الرحلة صباحاً أن تنجز مهامك في مساحة العمل التي ينتهي عملها مساءً وفي الليل عليك البحث عن كشك صغير بديل مثل هذا قرب البيت، فالشارع ملاذ كل شيء وكل باحث في رحلة التيه ذاتها. على كرسي حديدي نستمع إلى صوت أم كلثوم الذي يأتي من هاتف صاحب الكشك "أنساك"، قطعه محمد ليخبرني عن دخول "التابلت" إلى غزة، وهو الجهاز الجديد الذي يسمح للمتقدمين للثانوية العامة الذي تأخر اليوم تقدمهم لمدة عامين دراسيين.
يقول بابتسامة يخالجها الأمل على قِلّته: قربت!
سألته: ما هي؟!
فأجاب: أغنية الناجح يرفع ايده!
وأشار بيده إلى أعلى، عرفت أن موعد الثاني عشر من إبريل الموعد المحتمل لبدء التقدم لامتحانات الثانوية العامة المؤجلة منذ صيف عام 2024 أو هكذا تقول مصادر "بيقولوا" التي بات الجميع يتبعها كمصدر للأخبار في ظلّ شُح مصادر الأخبار وقد تتلقاها من فردٍ يقف بطابور الماء إذا ما بدأ قوله بجملة "بيقولوا" فإنه يؤكد لك حقيقة الخبر ومدى مصداقيته وأنت ما عليك إلا أن تصدقه فهل تمتلك قناة بديلة تنفي الخبر؟ بالتأكيد لا.
غاب ذهني في أغنية محمد ويده التي مازالت تلوح، لقد مضى وقت طويل دون أن نسمع هذه الأغنية في العائلة، آخر الاحتفالات تلك كانت في يوليو 2023 إذ اجتازت ابنة أختي الامتحانات من الفرع العلمي والتحقت بكلية الطب، هذا الصخب الذي يُشكِّله موسم آخر في غزة هو "موسم التوجيهي" تبدأ الاستعدادات فيه كما تبدأ الاستعدادات للأعياد بكل وأشدّ لهفة وتوتراً وقلقاً مشوباً بالفرح المنتظر للحظة النتيجة التنافسية والمتباهية.
في أيام نزوحي في خانيونس أكتوبر 2023 حتى يناير 2024 تعرّفت إلى إيمان، تشاركنا بيت النزوح ذاته أخبرتني يوماً كيف كانت تستعد لحفلة توجيهي حجزت والدتها موعداً مع "المُنجد" لتعيد تنجيد الأرائك الخاصّة بصالون الضيوف في بيتها، وكيف كانت تخطط وتحسب شراء أطقم جديدة من كاسات وصحون، ومكان استقبال الضيوف والمهنئين المناسب لأول ناجح في عائلتها الصغيرة وكان السؤال الذي يدور آنذاك: "هل يتسع صالون البيت لسبعة أخوال، وأربع خالات وعائلاتهم؟".
ومع بدء العام الدراسي في أغسطس 2023 استطاعت إيمان أن تحصل على غرفة خاصة بالبيت، وطلّتها والدتها باللون الأبيض أو كما كانت تقول "هذا فأل الخير والنجاح إن شاء الله".
كانت إيمان تشاركني رحلة الانتظار في طابور الخبز يومها؛ ليصير السؤال عن صالون الضيوف والمهنئين ومدى كفايته إلى سؤال آخر: معقول، يجي هذا اليوم؟!
قلت لها على أمل كاذب وهش جداً: إن شاء الله، ما بتعرفي شو المعجزة، وعندما عدنا إلى بيت النزوح شاركتها صورة تجمعني بابنة أختي نرفع فيها أيدينا كعنوان "للناجح يرفع ايده" وخبأنا أمنية بأن نلتقط صورة ذاتها بعد انتهاء الحرب والعودة للتقدم للتوجيهي.
كان ذلك في أشهر الحرب الأولى. بينما كنت خارجة من ذكرى أيام يوليو 2023 موعد الاحتفال بنجاح ابنة أختي وهي أيضاً الفرحة الأولى من البنات في عائلتها. يومها تركنا كل ما يمنع الاحتفال والتحقنا بصخب الاحتفال الذي بات معهوداً في قواميس الاحتفالات في هذا المواسم "زغاريد، ألعاب نارية، تصفيق، صراخ، رقص" إنه موسم الصخب وإن جاز ممكن هو فرصة للفرح الذي نهاجمها بنهم.
محمد أيضاً أخر أبناء أخوالي الذي سيقطع هذه المرحلة في نهاية اليوم ذاته وبعد انتهاء ساعات الاحتفال بدأ الأنظار تُلِّوح بأمنياته له بنتيجة عظيمة واجتياز مميز في رحلة اختياره للفرع الأدبي الذي خالف فيه والديه وأصرّ على اختياره وأقنعهم باختياره المخالف لأخوته الثلاثة للفرع العلمي، شكَّل هذا الأمر أملاً حاسماً بأنه سيجتاز الفرع ويحصل على درجة تميزه في اختياره من بين أخوته، وبدأ العام الدراسي الذي صار دافع محمد فيه أن يثبت فيه حسن اختياره للعائلة، ويحقق صدى أغنية "الناجح يرفع ايده" في بيت العائلة مجدداً.
في صباح اليوم التالي الذي تبع ليلة نام فيها محمد يحلم باقتراب الموعد، وعبر مصادر رسمية لم تهاجمها جملة "بيقولوا" بل هو إعلان رسمي من قبل وزارة التربية والتعليم الفلسطينية عن تأجيل امتحانات الثانوية العامة للمتقدمين من مواليد عام 2006 في المحافظات الجنوبية _قطاع غزة_ حتى إشعار آخر!
كان هاجسي بينما أقرأ الخبر هو كل الذين صفوا آمالهم ورتبوها في قلوبهم وقلوب عائلاتهم رغم شح الفرص وتغول الحرب وظروفها العصيبة استعداداً لأغنية "الناجح يرفع إيده" في بيوت العائلات التي تنتظر أيضاً.
عند درج البيت قابلت محمد، سألته بمزاح أعرف أن يبدو ثقيلاً لمتلقي مثله:
- كيف المعنويات؟
لم يكن الأمل يخالج ابتسامته كما الليلة السابقة، وبوجه واجم وملامح جامدة قال:
- خلص، الناجح مش رح يرفع ايده!
محمد الذي اجتاز أيام النزوح ولم يُثنيه ذلك عن فكرة الحلم بإنهاء التوجيهي والبدء بمرحلة الجامعة والتخصص بالتصميم، عاش برفقة عائلته أيام نزوح في خيمة تنقل فيها بين مركز إيواء ومخيمات في خانيونس، والزوايدة، ورفح، وآخرها كانت مواصي خانيونس تابع خلال أيامها دراسته وما يسمح له بأن يسرق وقتاً يستطيع فيه أن "يلم المنهج" كما يقول. حرصاً منه على أمله الذي كان دافعه فيه أنه أحسن الاختيار للفرع الذي سيجتازه وفي كل مرة يقول: بدي أثبت لأهلي إن اختياري صح!
لكنه الآن واجماً أمامي يحمل قالون الماء ويمازحني: بدي أعبي الأمل والمعنويات في هالقالون يمكن يزبط!
ولو إني شاكك....
سألته: وما هو شكل الأمل؟
أجاب: توقف الحرب، رح أرجع أرفع ايدي!
مساء اليوم ذاته التقيت بصديقتي بالطريق يرافقها أخيها أحمد اصطحبته معها كي تحاول تخفيف حدّة الخبر عليه وتبحث معه عن فرصة أمل جديدة لمشوار التوجيهي، هو أيضاً أخر أبناء عائلته التي كانت تنتظر أن تشير له وتغني له "الناجح يرفع ايده" رفع يده فوق رأسه وقال بتنهيدة:
"قبل أن تطول أيام الحرب كان توجيهي وسيلة وغاية وكل شيء مليء بالشغف في الدنيا، لكن لمّا طالت أيام الحرب وتحوّلنا فيها لآلات لنقل المياه والحطب فقدت الشغف نهائياً وربما احترق بنيران الخيم، يمكن رَجعتنا على غزة أعادت الشغف قليلًا، لكن القرار حوّل كل شيء لانطفاء أمامي"
لا يمكن حسم فكرة الأمل بالنسبة للمنتظرين الذين تحولوا اليوم لمحرومين خلال عاميين دراسيين من تحقيق الخطوة الأساسية في مجتمعٍ كمجتمع غزة يعتمد على التعليم كمؤهل لدخول سوق العمل وتحسين الوضع الاقتصادي، فتجد القناعة الجَمعية هي "خذ توجيهي وبعدها ما عليك" ليشيرون بذلك أنّها الخطوة الأساسية التي تنقلك إلى مرحلة مهمة وواعدة مهما كنت فيها طامحاً باستكمال تعليمك الجامعي من عدمه، المهم أن تحصل على الشهادة باعتبارها بوابتك للخروج أو لاستكمال الطموحات لاحقاً.
الآن وبعد أيام طويلة تأرجح فيها الطلبة على صراط الأمل، في ظلّ واقع دُمِرت فيه المرافق التعليمية، وشوهتها الحالة التي فرضتها الحرب من نزوح إذ تحولت 133 مدرسة حكومية إلى مراكز إيواء في ظلّ نُدرة المرافق المهيئة للنزوح، طال الأمر أيضاً كافة المرافق التعليمية والمؤسسات الرسمية، مررت حين عودتي يوماً بمقرّ مديرية التربية والتعليم _ منطقة غرب غزة، ابتسمت على عجزٍ أمام مشهد اللون الأسود الذي يسدّ بوابتها نتيجة إشعال الأفران للخبز وقلت: ربما صارت "مديرية خبز الخبز" ناهيك إلى تدمير القدرة الوظيفية للمكان نتيجة تعرّضه للقصف المستمر على مدار عام ونصف ومازال.
فرغم الأمل الذي يحمله الجميع؛ إلا أنّ الواقع بات مغلقاً باللون الأسود نتيجة اشتعال الحرب مجدداً، وانعدام أفق يحمي هذه الفئة من شرور الإحباط، خاصّة أنّ الدمار شمل كل البنية التحتية للتعليم بدءاً من رياض الأطفال، وانتهاءً بالجامعات الست الرئيسية في القطاع.
فهل سيعود الناجح ويرفع ايده بعد كل هذا؟!
طلبة الثانوية العامة بغزة