الهروب إلى الدوبامين الرخيص في زمن الحرب

الهروب إلى الدوبامين الرخيص في زمن الحرب

أحمد عمر (*)، شاب في العشرين من عمره، يعيش في مدينة غزة التي مزقتها الحرب منذ عام ونصف تقريباً. بين الانقطاع التام للكهرباء وأصوات القصف اليومي، وجد في هاتفه الذكي ملاذاً من واقع لا يطاق. ما بدأ كوسيلة للتواصل مع الأقارب تحوّل إلى إدمانٍ منهك - 8-10 ساعات يومياً من التمرير اللانهائي على منصات التواصل، ومشاهدة مقاطع الفيديو السريعة، والألعاب الإلكترونية. "أشعر وكأنني في حلم... وعندما ينقطع الإنترنت، يعود الألم كأنه صفعة"، كما يصف حالته. 

وتسمى هذه الحالة من إدمان مواقع التواصل الاجتماعي وملاحقة مقاطع الفيديو اللامتناهية على منصة إنستغرام على وجه الخصوص "الدوبامين الرخيص". لكنها تتسبب باضطرابات نفسية تزيد حدتها مع إجراء المقارنات بين ما كان يعيشه الناس في غزة قبل الحرب والظروف المعيشية القاسية الآن.

التفسير العلمي للدوبامين الرخيص في زمن الحرب

يفسر الاختصاصي النفسي والاجتماعي عطا سليمان مفهوم البحث عن الدوبامين الرخيص في البيئات التي تشهد حروباً ونزاعات، قائلاً:"من الناحية العلمية، فإن البيئات المضطربة كقطاع غزة تشهد ارتفاعاً في نسب الكورتيزول (هرمون التوتر) بنسبة 300-400%، بينما ينهار إنتاج الدوبامين الطبيعي لدى الأفراد. وهنا تتحول المنصات الرقمية إلى مضادات اكتئاب بدائية، حيث إن كل إعجاب أو إشعار جديد يحفز إفرازاً سريعاً للدوبامين يعادل 50-60% من جرعة النيكوتين."

وبحسب المختص سليمان، فإن الدوبامين الرخيص في مناطق النزاع والفقر يُعد شكلاً من أشكال الهروب من الواقع. حيث تظهر أشكال غير صحية من "المتعة السريعة" كوسيلة لهروب الأفراد من واقعهم القاسي. الدوبامين، الناقل العصبي المسؤول عن الشعور بالسعادة والمكافأة، يُطلَق بسهولة من خلال أنشطة بسيطة لكنها قد تكون مدمرة على المدى البعيد.

قصص واقعية: الهروب إلى العالم الافتراضي

تتقاطع قصة الفتاة منال عبد الله (*) مع التفسير العلمي السابق، حيث أشارت إلى أنها تواجه تحدي تراكم أعبائها العلمية والعملية بسبب الإغراق في متابعة مواقع التواصل الاجتماعي لساعات طويلة، خصوصاً خلال الليل.

تقول منال (29 عاماً) من سكان المحافظة الوسطى: "طالما كان الإنترنت متصلاً، أجد نفسي منشغلة بالهاتف دون تحقيق أي نتيجة فعلية. يضيع الكثير من الوقت بلا فائدة، فضلاً عن التسويف والمماطلة في إنجاز الأعمال، حتى لو كانت تتعلق بصنع إبريق الشاي مثلاً."

وأوضحت أنها تواجه الآن تحدياً يتعلق بهذا الإدمان غير المرغوب فيه، لكنها في الوقت نفسه قالت: "صحيح أنني أشعر بالذنب حيال تأجيل الكثير من المهام مقابل الانهماك في متابعة مقاطع الفيديو والصور عبر تيك توك وإنستغرام، لكني في نفس الوقت لا أستطيع أن أضع حداً لهذا الأمر."

أشكال أخرى للدوبامين الرخيص في غزة

ليست متابعة منصات التواصل الاجتماعي هي الخيار الوحيد الذي يسلكه الشباب للهروب من واقع القصف والقتل المستمر في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023. ففي مخيمات النازحين والأحياء الفقيرة، تنتشر لعبة أوراق النرد أو ما يُصطلح عليها "الشدة"، وهي تستنزف وقت الأفراد، خصوصاً الشباب، لساعات طويلة.

ويقول المختص النفسي والاجتماعي سليمان: "في الغالب، يحاول البعض البحث عن الدوبامين الرخيص من خلال إقامة علاقات سامة، كشكل من أشكال الهروب من الضغوطات الاقتصادية. كما يلجأ بعض المراهقين إلى علاقات عابرة أو زواج مبكر بحثاً عن الاستقرار العاطفي، لكن هذه العلاقات غالباً ما تنتهي بمزيد من المعاناة."

كما أشار إلى أن بيئات النزاعات والحروب تشهد أيضاً استغلالاً اقتصادياً ونفسياً، حيث قد تستغل شبكات غير أخلاقية الحالة القائمة وتسوق مواد مخدرة تعزز الإدمان بأسعار زهيدة لجذب أكبر عدد من الضحايا.

وأضاف: "تلك البيئات تكون عرضة لتنفيذ أنشطة غير قانونية مثل الجريمة المنظمة أو الدعارة القسرية، استغلالاً لليأس الاقتصادي. كما يتم تضليل الشباب عبر وعود بفرص وهمية أو الثراء السريع."

كيف نكسر حلقة الدوبامين الرخيص؟

في كتابها "دوبامين ناشيون"، أوضحت الدكتورة آنا ليمبكي أن مصادر المتعة السريعة تعطي لحظات من السعادة، لكن ثمنها يكون ألماً طويل الأمد، مثل الإدمان أو التشتيت الدائم.

ولكسر هذه الحلقة، قدمت ليمبكي مقولة: "ليس العظيم أن لا تسقط أبداً، بل أن تنهض كلما سقطت."

ثم أضافت أن الهروب من مصائد الدوبامين الرخيص يتطلب إعادة برمجة العقل للبحث عن المتعة في أنشطة ذات قيمة حقيقية، مقدمة بعض الاستراتيجيات الفعّالة:

أولاً: خرج من منطقة الراحة الخاصة بك

عندما تخطو خارج مساحتك الآمنة، قد تشعر بالانزعاج في البداية، لكن هذا الانزعاج سيتحول إلى متعة حقيقية ناتجة عن النمو والتقدم. هذه المتعة تكون أعمق وأطول أمداً من تلك المؤقتة التي يوفرها الدوبامين الرخيص.

ثانيا: خطط ليومك مسبقاً

وضع أهداف واضحة وجدول زمني محدد يساعدك على تجنب "شلل القرار" – ذلك العدو الذي يدفعك نحو الخيارات السهلة بدلاً من تلك المفيدة. جرب طريقة "قائمة المهام اليومية" لتنظيم وقتك.

ثالثا: ابتعد عن مصادر التشتيت

ضع هاتفك بعيداً عن مكان عملك.

حدد خمس "مناطق محظورة" يومياً تمتنع فيها عن الأنشطة غير المنتجة.

لا تحرم نفسك دفعة واحدة من كل مصادر الدوبامين الرخيص، بل قللها تدريجياً.

رابعاً: ابدأ ببناء عادات جديدة

كما يذكر جيمس كلير في كتابه "العادات الذرية"، فإن التغييرات الصغيرة والمستمرة تؤدي إلى نتائج كبيرة. ابدأ بعادة واحدة إيجابية، مثل القراءة أو ممارسة الرياضة، وسيزيد دماغك من إفراز الدوبامين استجابةً لهذه الأنشطة المفيدة.

كيف نطبق هذا في بيئات النزاع والفقر؟

في المجتمعات الهشة، يصبح الدوبامين الرخيص أداة خطيرة للهروب من المعاناة، لكن الحلول ممكنة، من وجهة نظر مجموعة من المختصين النفسيين والاجتماعيين، عبر هذه الأفكار:

تعزيز البدائل الصحية مثل الرياضة والفنون وبرامج التعليم.

مساعدة الأفراد المحيطين على مواجهة الصدمات والتحديات بدلاً من الهروب منها.

التوعية بمخاطر الإدمان (مواقع التواصل، الألعاب) وكيفية استبداله بأنشطة تعزز التحفيز الذاتي الحقيقي.

خلق مساحات ترفيهية آمنة مثل المراكز الثقافية.

اللجوء إلى الكتابة كأحد أدوات التفريغ النفسي والعاطفي.

الخلاصة: تحكم في دوبامينك، تتحكم في حياتك: عليك أن تعلم أن الانتصار في معركة الدوبامين ليس بالامتناع الكامل عن المتع، بل بالتحول من المتع الرخيصة قصيرة الأمد إلى تلك التي تبني مستقبلاً أفضل. سواء كنت تعيش في بيئة مستقرة أو منطقة تعاني من النزاعات، فإن السيطرة على مصادر سعادتك هي الخطوة الأولى نحو حياة أكثر إنجازاً ورضا.

(*) أسماء مستعارة