بعد عامٍ ونصف من الصراع الدامي والحرب الإسرائيلية المتواصلة، تحوّل قطاع غزة إلى ساحة واسعة للدمار، لم تقتصر آثارها على المباني والبنى التحتية فحسب، بل اخترقت أعماق النفوس، تاركةً وراءها إرثًا ثقيلًا من الصدمات النفسية. اليوم، أصبح التوتر والقلق جزءًا لا يتجزأ من حياة المواطنين في غزة، مما يجعل كل لحظة تحمل عبئًا إضافيًا. هذا الوضع يضع المجتمع أمام تحدٍ كبير: إعادة بناء ما تهدم، ليس فقط على الأرض، بل في القلوب والعقول أيضًا.
في خضم هذه الأزمات، تظهر الفنون والموسيقى كمنقذٍ غير متوقع، حيث تتحوّل هذه الأدوات إلى وسائل فعّالة لإعادة ترميم النسيج الاجتماعي وتعزيز التواصل بين أفراد المجتمع، خاصة بين الشباب والأطفال الذين تحملوا العبء الأكبر من هذه الأحداث.
"هذه الأنشطة ليست مجرد وسائل ترفيهية، بل أصبحت ضرورة مُلِّحة لخلق مساحات آمنة نتفاعل فيها مع بعضنا البعض بعيدًا عن أجواء العنف والدمار بالخارج" يقول أحمد أبو عمشة مدرس موسيقى في معهد إدوارد سعيد للموسيقى، وهو يجمع الأطفال من حوله ويعزف لهم في محاولة لتخفيف حدّة التوتر في نفوسهم.
وخلال الحرب المستمرة على غزة، استهدفت قوات الاحتلال العديد من المثقفين والفنانين؛ مما أدى إلى فقدان العديد من الأصوات الإبداعية، فوفقًا لتقرير الأونروا رقم 131، استُشهد أكثر من أربعين من العاملين في قطاع الثقافة من المبدعين والكتّاب في قطاع غزة، ومن بينهم فنانون وموسيقيون كانوا يشكلون جزءًا مهمًا من هوية القطاع الثقافية. وكان لهذه الخسارة تأثير كبير على المشهد الثقافي الغزي، إذ فقد القطاع الكثير من الأصوات التي كانت تعبيرًا حيويًا عن معاناة الشعب الفلسطيني.
لم يكن الفتى محمد أبو سمور (14 عامًا) الذي فقد أطرافه جرّاء قصف إسرائيلي في غزة يتخيل أن يتغير مجرى حياته بفضل الفن، فبعد أن سافر إلى "هيوستن" -مدينة في تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية-، لتلقي العلاج، اكتشف شغفه في الفنون.
بعد رحلة علاج امتدت لأشهر، ركب طرف صناعية، وانخرط في أنشطة تعليمية وفنية في أكاديمية Crescent Connection، يقول أبو سمور بابتسامةٍ عريضة، "اكتشفت موهبتي في الرسم، فساعدني الفنّ كثيرًا في التغلب على الصدمة التي عايشتها في غزة والتأقلم مع واقع حياتي الجديدة بعد الإصابة".
من خلال المبادرات الموسيقية وورش العمل الفنية، يمكن للأطفال والشباب التعبير عن أنفسهم بطرقٍ إبداعية، وأن يعيدوا بناء الثقة وتعزيز العمل الجماعي، لما من شأن ذلك -وفقًا لتوجهات العديد من المختصين-، أن يُسهم في تخفيف حدّة الصدمات النفسية وإعادة بناء مجتمع غزي أكثر تماسكًا.
وعاد الفنان التشكيلي عصام مخيمر إلى مدينة غزة من نزوحٍ طويل في مخيمات النازحين جنوبي قطاع غزة، لم يتوقف خلاله عن رسم جدارياته وفنّه الذي عبّر خلاله عن معاناة الإنسان تحت وطأة الحرب والحصار، فرسم جداريات بأسلوب انطباعي، حاول من خلالها نقل أحلام ومشاعر اللاجئين والنازحين الذين يعيشون ظروفًا قاسية.
يقول مخيمر: "ريشتي وألواني هي أصدق شيء أعبر فيه عن معاناتي كإنسان يعيش تحت الحرب، الفن هو صوتي الذي يصل إلى الروح بمضامين لونية قوية".
اليوم يرسم مخيمر بفرشاته وألوانه، مشاهد طبيعية خيالية، مثل الجبال التي يحلم برؤيتها يومًا ما، والتي ترمز إلى الحرية والأمل. لكن هذه المشاهد لا تخلو من تأثيرات الواقع المرير الذي يعيشه سكان غزة. فالحياة اليومية في القطاع، المليئة بالانتظار في طوابير طويلة للحصول على الطعام والماء، وخلق حياة وسط الركام، تترك أثرًا عميقًا في أعماله الفنية.
من خلال جدارياته، يحاول مخيمر إيصال رسالة إنسانية إلى العالم، تعكس معاناة الشعب الفلسطيني وتطلعاته، فأعماله ليست مجرد لوحات فنية، بل هي شهادات حية على الواقع المؤلم الذي يعيشه النازحون في غزة.
الفنّ بالنسبة لمخيمر ليس مجرد وسيلة للتعبير، يقول: "استخدم الألوان والخطوط لأرسم الأمل في وسط اليأس، ولأذكر العالم بأن هناك بشرًا يعيشون تحت وطأة الحرب وتدّاعياتها التي هي ألف حرب أخرى، يخلقون حياة من العدم ويحلمون بغدٍ أفضل".
بدورها، تقول المختصة التربوية حكمت المصري التي عادت إلى بيت لاهيا حديثًا بعد شهور طويلة من النزوح جنوب القطاع، إنّه من خلال ورش العمل الفنيّة، يمكن للأفراد، وخاصّة الشباب، أن يتشاركوا في التعبير عن تجاربهم مما يساعد في بناء علاقات اجتماعية أعمق وأكثر قوة.
وبينما شاركت المصري في "اللمة اللهوانية" التي جُمِع فيها أهالي المنطقة وأطفالهم في فعاليات ترفيهية يحاولون من خلالها تفريغ مشاعر الكبت والنزوح ويخففون من وطأة تدّاعيات الحرب عليهم بعدما عادوا لمنطقة شبه مُدمرة بالكامل، فأقاموا على أنقاضها خيامهم، تقول: "إنَّ الفنّ وسيلة رائعة لإعادة التأهيل النفسي فهو يُحفز الروح على تجاوز وتخطي الكثير من الصعاب".
ومن خلال الفنون تتواصل فئات المجتمع، فهو عادةً ما يكون مرآة تعكس الواقع الذي نعيش فيه. وهو ما أشار إليه الفنان التشكيلي خالد نصار الذي تقاطع حديثه مع المصري بقوله إن الأعمال الفنية يمكن أن تساعد الأفراد على معالجة مشاعرهم بشكل جماعي، من خلال العمل على مشاريع فنيّة جماعية مثل ورش الرسم أو النحت.
في غزة، نواجه تحدّيات كبيرة من حيث الصدمات النفسية والظروف الاجتماعية القاسية نتيجة للحروب المستمرة. يردف نصار: "الفنون تمنح الأفراد الفرصة للتفاعل مع بعضهم البعض وتبادل القصص التي قد يصعُب عليهم التعبير عنها بالكلمات، ومن خلال الفن، يمكننا أن نخلق بيئة للتعبير عن المعاناة، ولكن أيضًا الأمل".
وبحسب المختصين فإنَّ الفن والموسيقى يساعدان على تعزيز الهوية الفلسطينية، كما تلعب دورًا محوريًا في إعادة بناء العلاقات الاجتماعية في غزة خلال وبعد انتهاء الحرب، حيث من الممكن عبر هذه الأنشطة، أن يتمكن الأفراد من التعبير عن أنفسهم، معالجة صدماتهم النفسية، وبناء روابط اجتماعية جديدة.
موضوعات ذات صلّة:
مرسم ميساء: نجا من الحرب ليكون ملاذًا للأطفال
"الفن" الناجي الوحيد من حصار غزة
الموسيقى في غزة: ملاذ نفسي لمواجهة الحرب
الدراما المصرية ملاذاً في ليال حرب غزة
الفن والاستشفاء النفسي