الأطفال المرضى: بين أنفاس الحياة وحدود الموت

إغلاق المعبر يحدّ من أنفاسهم

الأطفال المرضى: بين أنفاس الحياة وحدود الموت

في صالة الانتظار أمام غرفة العناية الفائقة للأطفال المرضى في جمعية أصدقاء المريض الخيرية وسط مدينة غزة، تجلس حنان والدة الطفل قصى الحلو، الذي لا يتجاوز عمره خمسة أشهر، في حالة من الترقب المستمر. 

ساعتان مرتا على هذه الحالة حيث كانت تنتظر السيدة حنان، بفارغ الصبر أن يُسمح لها بدخول غرفة العناية الفائقة لرؤيته وإرضاعه. ويعاني الصغير من تشنجاتٍ متواصلة، وقد بدأت معاناته الصحية مذ كان في عمر الثلاثة أشهر ونصف، عندما لاحظت والدته احمراراً في وجهه وصعوبة في التنفس.

حنان، التي انتظرت أكثر من عشر سنوات لتصبح أماً، لم تستطع حتى الآن معرفة سبب مرض طفلها الذي لم يُشخَّص طبياً رغم كل محاولاتها. تقول بحزن: "منذ 14 يوماً، كان قصى في مستشفى الرنتيسي، لكن حالته تدهورت ما دفعني لنقله إلى هنا، إذ يعاني الآن ضعف شديد في الوزن وتدهور في صحته".

وبينما تجلس هذه الأم على كرسي الانتظار، يساورها القلق الدائم على فقدان طفلها، خاصة أنه لم يتلقَ أي علاج إلى الآن.

هذه المعاناة ليست حالة فردية، بل جزء من مأساة يومية يعايشها مئات الأطفال في قطاع غزة الذين يعانون أمراض مزمنة أو إصابات خطيرة، ولا يملكون العلاج الذي ينقذ حياتهم إلا عبر السفر إلى الخارج بسبب تدني مستوى الخدمات الصحية نتيجة الحرب؛ لكن مع إغلاق المعابر بسبب القيود الإسرائيلية المفروضة وتداعياتها، يجد هؤلاء الأطفال أنفسهم عالقين، ينتظرون الفرصة الوحيدة التي قد تمنحهم الأمل في العلاج والبقاء على قيد الحياة.

ووفقاً لمركز الميزان لحقوق الإنسان، فإن نسبة المرضى والجرحى الذين تمكنوا من السفر للعلاج لا تتجاوز 9%، وهو ما يعكس تعقيدات الإجراءات الإسرائيلية المُتبعة والتي تحول دون حصول الأطفال الفلسطينيين على العلاج المناسب.

وينتظر أهالي الأطفال المرضى بمرارة، فرصة الحصول على تحويلة طبيّة للعلاج خارج أسواق القطاع الذي عانى حرباً مدة 15 شهراً، لكن إغلاق المعبر يجعل أملهم في علاج أطفالهم يتضاءل شيئًا فشيئًا.

محمد بدوي، والد الطفلة حلا (عام ونصف)، يروي لـ "آخر قصة" معاناة ابنته التي ولدت قبل الحرب بشهر واحد، فمنذ أيامها الأولى، بدأت تظهر عليها أعراض ضيق التنفس وزرقة في وجهها؛ ما دفعه للتوجه بها إلى المستشفى حيث اكتشف الأطباء إصابتها بثقب في القلب وانسداد في الشرايين. 

يقول الرجل والدمع في عينيه: "أنا اخسر ابنتي يومًا بعد الآخر، فهي تحتاج إلى عملية جراحية عاجلة، وإذا لم تتم في أسرع وقت، سيبقى شبح الموت يُلاحقها". ويشير إلى أنه ومع مرور الوقت، بدأت حالة الطفلة حلا تتدهور بشكلٍ يومي، حيث يتراجع وزنها (لا يتجاوز الكيلوغرام الواحد)، فيما أصبحت الرضاعة الطبيعية وحدها مصدر غذائها.

وعلى الرغم من المحاولات المستمرة من منظمة الصحة العالمية للإسراع في تقديم المساعدة لسفر الطفلة حلا خارج القطاع؛ إلا أن هذه المحاولات ما زالت تُراوح مكانها في ظلّ إغلاق المعابر منذ نحو عشرة أيام، وتفاقم معاناتها لعدم توفر علاج متخصص داخل مشافي القطاع التي خرج أغلبها عن الخدمة نتيجة الأعمال العسكرية الإسرائيلية.

آلاف الأطفال في قطاع غزة يخسرون أجزاء من صحتهم في انتظار العلاج، إذ أكد زاهر الوحيدي، مدير وحدة المعلومات الصحية في وزارة الصحة بغزة، أن نحو 11,000 مريض ينتظرون السفر لتلقي العلاج في الخارج، من بينهم 2900 طفل يعانون من أمراض خطيرة مثل السرطان وأمراض القلب. 

وقال الوحيدي في حديثٍه مع مراسلة "آخر قصة": "إنّ جميع الحالات قد تم تحضير تحويلاتها الطبية والتنسيق لها، لكنهم لا يزالون عالقين في انتظار إذن من السلطات الإسرائيلية للسماح لهم بالخروج."

في زيارةٍ لـ "آخر قصة" إلى قسم الأطفال بمستشفى أصدقاء المريض، استعرضت الطبيبة المختصة قائمة أسماء الأطفال الذين يحتاجون إلى علاج خارج غزة، فكانت الصدمة أنَّ القائمة تضمّ نحو 80 طفلاً يعانون أمراض قلبية حادّة ويحتاجون إلى عمليات جراحية عاجلة لإنقاذ حياتهم. وهذا الواقع يثير تساؤلاً مهماً: إذا لم يحصل هؤلاء الأطفال على العلاج، فما مصيرهم.

رئيسة قسم الأطفال في مستشفى أصدقاء المريض الطبيبة مها فنانة، تشير إلى أن معظم الأطفال الذين يتم استقبالهم في المستشفى يعانون من أمراض قابلة للعلاج إذا توافرت الإمكانيات الطبية المناسبة، مثل أمراض القلب المزمنة أو حالات الحمى الشوكية. ولكن للأسف، الموارد الطبية في غزة لا تكفي لتلبية احتياجاتهم، وفق قولها.

هذا يعني أن الأطفال في وقت سابق كان من الممكن أن يتلقوا علاجهم داخل غزة، غير أن انعدام الخدمات الصحية نتيجة تدمير غالبية المشافي وسحق العديد من المختبرات الطبية وأجهزة الأشعة التشخصية، وإخراجها عن الخدمة، كلها عوامل أدت إلى إنهاك المنظومة الصحية وساهمت في تراجع أدائها على النحو الأمثل.

ويتنافى هذا الواقع مع ما نصت عليه المواثيق الدولية، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني، لاسيما فيما يتعلق بتوفير العلاج للمرضى وحماية المدنيين. غير أن الأطفال الذين شكلوا أكثر من 30% من عدد ضحايا الحرب، يبدو أنهم خارج سياق العُرف القانوني لاسيما فيما يخص الحق في تلقي العلاج.

ويحتاج هؤلاء الأطفال إلى السفر للخارج لتشخيص حالاتهم وتلقي العلاج المناسب، ذلك وفق ما أشارت إليه الطبيبة "فنانة" موضحةً أنّ أعداد الأطفال المرضى "من عمر شهر حتى 12 عاماً" في مشفى "أصدقاء المريض" في تزايد مستمر، وخاصة أولئك الذين يحتاجون إلى تشخيص دقيق ولم يحصلوا على العلاج الكافي بسبب محدودية الموارد.

في فبراير الماضي، تعرّض الطفل حاتم الشرافي، البالغ من العمر أربعة أشهر، لحروق من الدرجة الثالثة في يده اليمنى وأجزاء من وجهه نتيجة انفجار جسم مشبوه من مخلّفات الاحتلال في الغرفة التي كان يتواجد فيها.

يصف والده الحادثة التي أصابت طفله قائلاً: "كنت في منزل أقارب لنا في مخيم المغازي وسط قطاع غزة، وأطفالي كانوا يلعبون في علبة سردين، وفجأة انفجرت كتلة نار، وبينما هرب الصغار، بقي طفلي الرضيع في سريره، وأكلّت النار جزءًا من يده اليمنى ووجهه". وعلى الرغم من أنّ الأطباء قرروا بتر يد حاتم، إلا أنّ الأب رفض ذلك.

مؤخرًا، حصل الطفل حاتم على تحويلة طبية لاستكمال علاجه بالخارج، لكن المعبر مازال مغلقًا. ومنذ إصابته، لم يغادر الطفل المستشفى بسبب الألم المستمر، فيما لم يحصل إلا على مسكنات لتخفف حدة الألم.  

ويُشكِّل هذا الواقع من منظور مدير مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، علاء السكافي، انتهاكًا للحق في العلاج، وقال السكافي إن الإجراءات الإسرائيلية بحق المرضى في قطاع غزة، خاصة الأطفال، تُشكِّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني. 

وأشار السكافي إلى أن اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 تلزم القوة المحتلة بتأمين الرعاية الصحية للسكان في الأراضي المحتلة. كما أوضح أن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مادته 12 يعترف بحق الإنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية، بما في ذلك حق الأطفال في الحصول على العلاج.

إلى جانب ذلك تضمن اتفاقية حقوق الطفل في المادة 24 للأطفال الحق في التمتع بأعلى مستوى صحي ممكن، بما في ذلك الحصول على علاج الأمراض وإعادة التأهيل. لكن هذه الحقوق تُنتهك يوميًا في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023.

وأكد الحقوقي السكافي أن المماطلة المستمرة من الجانب الإسرائيلي في الرد على طلبات التحويل الطبي تحت ذريعة "الفحص الأمني" أو "قيد الفحص" يهدد حياة الأطفال، ويستدعي تدخلًا قانونيًا عاجلاً لإنقاذهم.

هذا الواقع الذي يعيشه أطفال غزة اليوم هو صورة مروّعة لغياب الرعاية الصحية وحقوق الإنسان الأساسية، في ظلّ قيود إسرائيلية مستمرة تضيق على الشعب الفلسطيني، وتزيد من معاناته وتعرض حياة الآلاف من الأطفال المرضى في قطاع غزة للخطر.

 

موضوعات ذات صلّة:

مريضات السرطان: أمل العلاج محاصر

الجرحى المغتربون: شتات إلى أجل غير مسمى

أمهات: الحرب فرضت توقيت الولادة

ناجون من الموت يروون تجاربهم مع الآلام النفسية

رحلة علاج المرضى تمزق العائلات بغزة

غزة في زمن الحرب.. مرضى الفشل الكلوي عالقون بين الموت .