لعلّ أشدّ الفئات تضرراً في الوضع الغزي الخاصّ هي الفئات الهشة والتي تُصنَف النساء واحدة من ضمنها، وذلك ضمن مستويات الوضع الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات العربية عموماً والفلسطينية الغزية خصوصاً في ظلّ ازدياد أنواع الحصار المفروض على حدود وطاقة المرأة عموماً فما بالك في ظلّ تصاعد خطورة الوضع الأمني والسياسي خلال عام ونصف حُرِمت فيه المرأة والمجتمع عموماً من ممارسة آدميته وفعل الآدمية عموماً أو الحصول على أبسط الحقوق التي تُشعِر الإنسان بقيمته الكريمة.
وفق بيانات هيئة الأمم المتحدة في إبريل 2024 إنّ الحرب على قطاع غزة كانت حرباً على النساء، إذ أشارت أنّ أكثر من عشرة آلاف امرأة قُتِلت إلى حين إصدار البيان، وأمّا الناجيات من القصف والعمليات البرية الإسرائيلية فقد تشرّدن وفقدن عنصر الإعالة الأساسي لهن.
الآن وبعد أن ارتاحت يد الحرب يمكننا التأكد من أن الحياة خلال عاماً ونصف كانت عبارة عن حالة من الاضطرار وهو فعل شعبي جمعي غزي، لكن تتمثل خصوصيته اليوم في ظلّ مصادفة زمن انتهاء الحرب بزمن احتفال العالم بيوم المرأة العالمي الذي يأتي كتقدير واحترام لدور المرأة السياسي والاقتصادي والاجتماعي بالعموم، وإن وضعنا هذا المعيار أمامنا الآن فإنّ كل الأيام تصلح لأن نسميها عيداً عالمياً للمرأة الغزية في ظلّ حالة الاضطرار التي عايشتها خلال عام ونصف من حرب إبادة وقتل وتشريد ونزوح.
والاضطرار وفق معناه اللغوي هو: حالة ناتجة عن نزول أمر يتسبب عنه تلف النفس أو أحد الأعضاء أو نزول مكروه لا يمكن احتماله أو يشق احتماله مشقة شديدة.
أما وفق بعض التعريفات فإنّ اللجوء للاضطرار هو الخوف من الهلاك وليس الخوف من الضرر.
وقياساً لهذه التعريفات فإن الواقع الغزي الذي يجلب على الدوام حالة من الصراع على الوجود تحصر الوجود الغزي بهذا الفعل، فعل الاضطرار ويمكن اعتبار مبرر الاضطرار هو حالة الخوف من الهلاك والفناء فيلجأ الطرف الأشد هشاشة في المجتمع إلى القبول بالاضطرار كميكانيزم دفاع يقيه من هاجس الهلاك.
فحرب الإبادة على إطالة زمنها شكّلَّت هذا الهاجس الحقيقي، فكان البديل هو الاضطرار كفعل أساسي أي الإجبار على القبول بالوضع المفروض في ظلّ انعدام الخيارات الآمنة أو شبه الآمنة.
يمكن تصنيف مستويات الاضطرار لدى المرأة الغزية خصوصاً عبر المستويات التالية:
اضطرار الخروج والنزوح
اضطرار الاستغناء والقبول بأدنى المقومات الخيمة مثالاً
اضطرار إعادة تأثيث البيوت وبناءها
اضطرار توفير مقومات الحياة للمعيلين بعد فقد المعيل الأساسي للأسرة
ويبدو جلياً لو اختصرت كل هذه المستويات بما يعرف بـ(ازدواجية الأدوار) الخاصة بدور المرأة في ظلّ تلاحق التهديدات الأمنية التي كانت وما زالت بالمناسبة فلا يعني انتهاء الحرب انتهاء الفعل، فالفعل الاضطرار أقصد ما زال ملازماً شكل الحياة في غزة فانتهاء حالة النزوح لا يعني انتهاء واقع الخيمة، لأنّ الخيمة صارت بيتاً بديلاً لكل الفاقدين لبيوتهم في ظل ارتفاع أسعار الإيجار، وفقدان نسبة كبيرة من المباني والبيوت لعنصر الأمان، وغيرها من الأسباب التي دفعت بالكثير من النساء إلى القبول بالعودة والعيش في خيمة قرب البيت المهدوم.
تشاركت الحديث وسيدة في إحدى المكتبات العامة كانت تشارك ابنها طالب الثانوية العامة اختيار بعض القرطاسية الخاصة بالدراسة قالت: "إنها مضطرة لأن تكون الآن في هذا المكان لأجل ابنها رغم انعدام فرص وخيارات الجو المناسب للدراسة في خيمة بعد العودة إلى جباليا"، تذكَّرت حالة الاضطرار التي تقودها النساء بالخصوص كمعيلات في ظلّ حروب شديدة من فقر وفقد كل مقومات الحياة ضمن سياقات الحديث في جلسات مع النساء في يونيو 2024 كان السؤال: لمن نحن مضطرات، أو بالأصح لأجل مَنْ؟
الإجابات كانت لا تنتظر التفكير، الأغلب يسابق ويقول: "من أجل أولادنا" من أجلهم كل شيء يفنى.
واحدة من أقوال أمي رحمها الله المأثورة "الأمهات عندما يشعرن بخطر، يتمنين لو يُعدَّن أبنائهن إلى أرحامهن".
هذا الميكانيزم الخاص بغريزة الأمومة لا يمكن محوه عن صفة النساء بداخل كل امرأة أم مهما حاولت أن تخفي ذلك فالتضحية والقبول بالوضع هو فعل غرائزي نسوي بالدرجة الأولى، وإلا لماذا قبلت (أسيل) جارتي الجديدة بالبيت الجديد بعد العودة إلى غزة بأن تسكن في خيمة مع عائلتها، أسيل وعمرها 24 عاماً كانت تضطر لأن تقبل بايقاظ أمها ليلاً كي ترافقها إلى المرحاض في مخيمات النزوح بمواصي خانيونس، تقول إن هاجس الذهاب إلى المرحاض مازال مسيطراً عليها حتى في مزحتها الأولى حين عادت إلى بيتها وخرجت من الحمام تنادي أمها وتسأل: "هل الحمام يَشِف؟" أيّ يُظهر مُن فيه!
وتكمل "كان الحمام يشكل عبئاً وهاجساً لوالدي وإخوتي في كل مرات النزوح، إذ يأخذ مسار مكانه وإيجاد مكان مناسب لتصميمه فيه؛ وقتاً طويلاً لانشاء حمام خاص بالبنات فقط بعيداً عن عيون البقية في المخيم".
تضطر النساء بالقبول بوضع يكشف ويعدم خصوصيتهن في الحرب لانعدام البدائل في مجتمع قلّت فيه أصلاً البدائل فيصير سقف الخيمة عبارة عن جاثوم يجثم فوق الصدر والرأس كما وصفته "رنين" وهي فتاة عمرها 15 عامًا كانت تُرافق والدتها في جلسات الحديث، قالت: "سقف الخيمة على رِقته لكنه ثقيل، ثقيل جداً".
تعلو فرص التنازل للمرأة في ظلّ تصاعد حالة الاضطرار التي تفرضها الحرب، في إحدى مساحات العمل الخاصة التي بدت تُشكِّل ظاهرة في غزة أثناء الحرب وبعدها وهو ما يعرف ب " هاب" (Hub) مساحة دراسة وعمل لكل الأشخاص الفاقدين لأماكن عملهم ودراستهم وفرص الاتصال بشبكات الانترنت والكهرباء في ظلّ تعطلها، وهي حالة عجزٍ أخرى أمام أحلام الكثير من الفتيات والنساء وطموحاتهن خاصة الجامعيات منهن.
تقول آلاء وقد نشأت بيني وبينها حالة تعارف أو لنسميها صداقة بعد الدوام في مكان الانترنت بأوقاتٍ متشابهة بأنّها شارفت على إنهاء حلمها بدراسة الطب في بداية الحرب نظراً للضغط الذي شكّلته الحرب عليها من نزوح وحصار في أماكن النزوح وفقدان الاتصال بالإنترنت في أماكن متعددة ذكرت منها مستشفى القدس بتل الهوا نوفمبر 2023، وكلية التدريب المهني_ خانيونس يناير 2024، كل هذه الظروف شكلت عبئاً أمام فقدان الأمل بانتهاء الحرب وإطالة زمنها. فقدت آلاء سنة دراسية لفقدانها مساحة الانترنت التي تتابع من خلالها دراستها في كلية الطب، وتضطر الآن يومياً ملاحقة حلمها بالذهاب إلى مساحة الدراسة تلك ليشكِّل لها عبئاً جديداً في مسارها وهي كما قالت: "كنتُ أظن أن حلمي سهلاً: "دراسة وبيت وأهل وأمان"؛ لكن الحرب اضطرتني إلى الاستغناء عن تلك الأساسيات التي أصبحت رفاهيات.
تتنازل النساء عن أدوارهن التي رسمتها الحياة لهن أو تبنتها أحلامهن ومخلياتهن في الحرب وحتى بعد انتهاءها لا يمكن إنكار الشكل الجديد التي بدت المرأة الغزية تظهر فيه خلال الحرب وتظهرها به الصور دائماً خلال كل مرات النزوح المتكررة بما يعرف بالزي الرسمي للنساء "إسدال الصلاة".
وفي إحدى المرات مازحت صديقاتي وشقيقاتي بأننا بحاجة لأن نطالب اليونسكو لاعتماد هذا الشكل كجزء من التراث الغزي الرسمي للنساء خلال الحرب، إذ تتنازل من خلاله المرأة عن مظهرها الذي تسعى له غريزة الأنوثة بشكلٍ أساسي.
واحدة من السياقات التي طرحت في جلسات الحديث هي علاقة المرأة بالمرآة خلال الحرب، أظهرت من خلالها المرآة أمام النساء كل على حِدا أغلبهن رفضن شكلهن الذي فرضته الحرب لكنهن قبلن به لحاجة الاضطرار وكان العنوان الأنسب لمثل هذا السياق "مش أنا" إذ تنكر فيه النساء ملامحهن وحالتهن التي فرضتها عليهن الحرب.
في يوم المرأة العالمي قد لا يبدو غروراً أو تعجرفاً من أن تمنح كل نساء غزة وساماً خاصاً تقديراً لعدم استسلامهن؛ بل بمواصلة رغبتهن العالية في الحياة رغم كل ما فقدن. أذكر منّا ومنهن دينا السيدة الثلاثينية التي قبلت بأن تصنع حلوى "الدونات" في أحد مخيمات الزوايدة وسط القطاع، وتدور فيها بين الخيام لتعيل أبنائها الثلاث بعد فقدان زوجها. دينا هي خريجة بكالوريوس بالشريعة اضطرت للتنازل من أجل أطفالها وكان الدافع لصناعة "الدونات" هو أن أولادها يحبونه و"أننا بحاجة لشيء يُحلِّي مرارة الأيام العصيبة" قالتها بابتسامةٍ لن أنساها. تصلح تلك الابتسامة لأن تكون شكل الوسام الذي يمنح للمرأة الغزية في شهر مارس الربيع والمرأة والأمومة.
تنويه: بعض الأقوال الواردة كشهادات مشاركة في النصّ دُوِنت أثناء جلسات الحديث الخاصّة بالنساء الفاقدات في مخيمات النزوح وسط قطاع غزة في الفترة ما بين يونيو_ أكتوبر 2024، والبعض الآخر هو آراء حصرها الكاتب وفق مشاهداته اليومية.
موضوعات ذات صلّة:
نساء خيام غزة: معاناة تحت وطأة الحرب والبرد
من وإلى الخيمة: لم تُعِد الهدنة للنساء خصوصيتهن
النساء في غزة