يوسف مهنا- محمد الدحدوح- محمد أبو عامر
في ظل أزمة شح المياه التي يعاني منها قطاع غزة، انتشرت ظاهرة حَفْر الآبار العشوائية، للاعتماد عليها في الشرب وري المحاصيل الزراعية، الأمر الذي كان عاملاً مساعداً في انخفاض منسوب المياه الجوفية، ونقصان في حجم المخزون الاحتياطي منها وتسبب في زيادة نسبة الملوحة.
وتشكل هذه الآبار تعدياً على الخزان الجوفي، إذ أن غالبيتها يجري حفرها بدون تراخيص وبعيداً عن أعين الرقابة. فضلاً عن أنه شكل استنزافا لمخزون المياه الذي يعاني نقصاً حاداً. وتصل نسبة العجز في المياه حوالي 130 مليون متر مكعب من المياه، وفق إفادة سلطة المياه بقطاع غزة.
شح وملوحة
تشير ورقة حقائق حول مشكلة تلوث المياه في قطاع غزة وآثارها على السكان، إلى أن نسبة مياه الشرب غير الآمنة في غزة، ارتفعت من 90% في العام 2012 إلى 97% في العام 2019.
وطبقا للورقة التي صدرت العام الماضي، عن مركز مسارات، فإن التقديرات المحلية تفيد بأن نحو 68% من المياه المحلاة في غزة ملوثة، مما يرفع من نسبة تفشي الأمراض.
يشتكي المواطن أحمد عبد القادر، من سكان مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة الذي يقطنه ما يزيد عن 100 ألف نسمة، من مستوى الملوحة التي وصلت إليها مياه الشرب، ناهيك عن الانقطاع المتكرر لخطوط المياه الواصلة إلى المساكن.
يقول عبد القادر الذي أصبح يعتمد بشكل أساسي على تعبئة خزاناته المنزلية بالمياه المحلاة، إن مياه البلدية لا تستخدم إلا في عمليتي الغسيل وجلي الأواني فقط، إذ أن ملوحتها وتلوثها يحولان دون استخدامها في الشرب أو الطهي.
ويرجع عبد القادر الذي يعمل مدرساً حكومياً، العجز الحاصل في المياه إلى حجم الاستهلاك المتضخم داخل المخيم، خصوصا في فصل الصيف، ناهيك عما اسماه عشوائية حفر الآبار التي تسببت في زيادة نسبة العجز الحاصل في المياه، مطالباً الجهات المسؤولة بالضرب بيد من حديد لكل من يحاول استنزاف مخزون المياه.
وقال: "ليس من المعقول أن كل من يملك ثمن حفر بئر ينفذ ذلك لينقذ نفسه ومحيطه من أزمة الشح، ثم يحرم الجميع من المياه.. هذا ليس عدلاً".
"الشاطئ" ليست المنطقة الوحيدة التي تعاني من أزمة شح في المياه، إذ أن أحياء ومناطق مختلفة من القطاع تعاني الشيء ذاته، والتي كانت الآبار العشوائية سبباً رئيسياً في هذه المعاناة، من دون وجود حلول جذرية لها.
الألاف غير مرخصة
وتنقسم الآبار إلى عدة أنواع: (بئر زراعي، بئر منزلي، بئر بلدية، بئر سياحي، بئر تجاري)، وجميعها يجب أن تحصل على تراخيص، غير أن حجم التجاوزات في هذا الملف قد بلغ ذروته، إذ تقدر إحدى الهيئات الرسمية عدد الآبار الغير مرخصة بأكثر من 8 آلاف بئر.
ووفقاً لسلطة المياه في غزة، فإن القطاع يعتمد بشكل أساسي على ثلاث مصادر للمياه: الخزان الجوفي الساحلي، وخط المياه الواصل من شركة ميكوروت الإسرائيلية، ومحطات تحلية مياه البحر الثلاث.
ويجري بشكل يومي تحلية 22 ألف لتر مكتب من مياه البحر، بقدرة 4 مليون لتر مكعب سنويا، غير أن نقص مصادر الطاقة يجعل هذه المحطات تعمل بنسبة 50% من كفاءتها، الأمر الذي لا يغطي احتياج السكان.
وتنص المادة "35" من قانون المياه الفلسطيني لعام 2002م، "يعاقب بالحبس لمدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد عن سنة أو بغرامة لا تقل عن ألف دينار ولا تزيد عن خمسة آلاف دينار أو بما يعادها بالعملة المتداولة كل من قام بحفر الآبار الجوفية بدون ترخيص أو خالف شروط الرخصة الممنوحة له".
فيما منحت المادة "36" المحكمة، أن تحكم على الشخص المدان بحفر الآبار بدفع قيمة الأضرار التي نتجت عن المخالفة وإلزامه بإزالة أسبابها وآثارها وإعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل ارتكابها وإذا تخلف عن ذلك تأمر الجهات المختصة بتنفيذ تلك الأعمال والرجوع إلى المحكوم عليه بجميع نفقاتها.
ومن الطبيعي وفقاً للإجراءات القانونية أنه يجب أن يحرر محضر ضبط مخالفة يقدم للنيابة، ثم يتم تحويله للقضاء ليمثل مرتكب المخالفة أمامه حسب نصوص قانون المياه، إلا أنه لا تبدو الأحكام القضائية رادعة إلى حد كبير.
من ناحيته، أكد الدكتور احمد حلس رئيس المعهد الوطني للبيئة، على أن حفر الآبار العشوائية أثر على كل من الكمية والنوعية للمياه الجوفية، معتبراً أن العجز المائي الكبير، دفع سكان المناطق البعيدة عن الشوارع العامة للجوء إلى حفر أبار عشوائية.
وأوضح حلس أن المحطات العشوائية لتحلية المياه أثرت أيضا تأثيرا سلبياً على خزان المياه الجوفية؛ مؤكدا أن هذه المحطات يوجد بها عدد من المشاكل أبرزها أن المياه المستخرجة غير مكلورة.
ولفت في الوقت نفسه، إلى وجود دراسات تثبت أن الخزان الجوفي يعاني من على مستوي الكمية وكذلك الجودة، حيث أن هناك ارتفاع في معدل الملوحة، فضلا عن مستوى النترات، مرجعا ذلك إلى عدة أسباب منها: تسرب المياه العادمة وكذلك المبيدات الزراعية التي تستخدم من قبل المزارعين بشكل مفرط، إلى باطن التربة، بالإضافة تسرب مياه البحر أيضا إلى مياه الخزان الجوفي.
وقت العطلة!
وللوقوف على مدى خطورة ارتكاب هذه المخالفة من عدمه من وجهة نظر مقترفيها، حاول فريق التحقيق تقمص دور المواطن العادي وقام بطلب حفر بئر من أحد الحفارين، فأبدى الأخير موافقته على الفور ولم يشترط وجود رخصة، فيما فضل أن يقوم بهذه المهمة بدءًا من مساء الخميس وحتى فجر الجمعة (وقت العطلة الرسمية).
وعن سؤاله عن احتمال وقوع عملية ضبط من قبل جهة التفتيش، قال إن ذلك لا يحصل إلا في ناطق ضيق جداً كأن يقوم أحد الجيران بتقديم شكوى، وإذا وقعت عملية الضبط فسنكون أمام خيارين إما طمر البئر أو ترخيصه.
يستدل على عملية التساهل مع عملية حفر الآبار العشوائية، بما قاله المواطن جلال أبو عامر من سكان مخيم النصيرات بالمحافظة الوسطى، والذي أكد أن يقام في حيه من 5-7 آبار، ثلاثة منها مرخصة، فيما أن الأخرى لم يحصل أصحابها على ترخيص.
وأكد المواطن أبو عامر أن اعتراض السكان على حفر هذه الآبار في منطقته والتي ضاعفت من ملوحة وجودة المياه، لم يغير في واقع الأمر شيئاً، وقال: "مع زيادة حفر الآبار في المنطقة بدأت تزداد نسبة ملوحة المياه بشكل كبير".
أضاف أن ازدياد حجم الشاليهات السياحية ساهم في استنزاف المياه الجوفية، لدرجة أن أصغر منتجع يستهلك حوالي ٥٠ كوب مياه وربما هذا يكفي استهلاك ٦٠ أسرة يوميا" على حسب تقديره.
ويمنح القانون سلطة المياه الفلسطينية الحق في إصدار تراخيص لحفر الآبار، غير أن مازن البنا نائب رئيس السلطة يقول إن خطورة الآبار العشوائية أو المخالفة، أنها تحفر بطريقة تؤثر سلبا على الخزان الجوفي، نتيجة قربها من بعضها، فضلا عن مخالفتها للمواصفات الفنية التي تحدد مستوى العمق، فضلا عن أن بعضها يعتمد في تشغيله على مضخات كبيرة الحجم، الأمر الذي يساعد في تسرب مياه البحر إلى الآبار.
استمرار منح التراخيص
ورغم إقرار البنا بوجود عجز كبير في مصادر المياه الجوفية التي تعتمد على مياه الأمطار، بنسبة تصل إلى 130 مليون لتر مكعب سنوياً، إلا أنه أقر باستمرار منح التراخيص لإنشاء آبار في قطاع غزة، "لأنه في النهاية المزارع يريد أن يزرع والمواطن يريد أن يشرب، وبالتالي عندما تتقدم إلينا بلدية ما أو مواطن أو مزارع بطلب ترخيص بئر، لابد أن نتفهم احتياجاتهم" كما قال.
ولفت إلى أن حفر الآبار المخالفة يشكل ظاهرة في قطاع غزة، خصوصا أن أصحاب البنايات متعددة الطبقات يلجؤون إليها لسد احتياجات سكانها من الماء، مؤكدا أن هناك حالات ضبط لعملية حفر آبار غير مرخصة، ويقوموا بتحويل مرتكبيها إلى القضاء.
في المقابل، نفى أنور الجندي منسق المياه في بلدية غزة (إحدى أكبر بلديات القطاع) وجود دور رقابي لبلديته وغيرها من البلديات على عمليات حفر الآبار غير المرخصة، مرجعاً تلك المسؤولية إلى سلطة المياه.
وأشار الجندي إلى أن بلديته تقوم بالإشراف على 72 بئر مياه مقامة لأجل تزويد المواطنين بالمياه، مؤكدا أن سلطة المياه هي الجهة الوحيدة التي يخولها القانون بممارسة دور التفتيش والمتابعة بحق المخالفين.
وقال: "يوجد أكثر من 8 آلاف بئر غير مرخص، وهذا يشكل خطراً على مستوى الاستهلاك، وبالتالي يجب إغلاقها سواء كانت تغذي مساكن المواطنين أو المزارعين"، مؤكداً في الوقت نفسه وجود 238 محطة تحلية، منها محطات غير مرخصة تساعد على استنزاف المياه الجوفية.
وشدد على ضرورة أن تقوم سلطة المياه وبمساعدة جهاز الشرطة، بملاحقة وإغلاق الآبار العشوائية، مؤكداً أن بلديته ليست جهة اختصاص في ملاحقة المخالفين.
ضبط مشروط بالإبلاغ
بيد أن العقيد أيمن البطنيجي المتحدث باسم جهاز الشرطة في قطاع غزة، قال إنه لا يمكن ضبط أي بئر غير مرخص إلا إذا قامت سلطة المياه بالإبلاغ عنه.
وأشار البطنيجي في سياق حديثه لفريق التحقيق، إلى أن سلطة المياه هي الجهة المخولة بالإبلاغ عن الآبار العشوائية التي يجري حفرها من دون ترخيص، فيما تتفاعل الشرطة مع الإبلاغ حسب مكان وقوعه على مستوى محافظات القطاع المختلفة.
حاول فريق التحقيق الوقوف على دور المجلس التشريعي في الرقابة على عمل الجهات التنفيذية ذات العلاقة بالقضية مثار البحث، وعلى أثر ذلك التقى بالنائب يحيى موسى مسؤول اللجنة الاقتصادية في البرلمان، والذي بدوره أكد أن حفر الابار العشوائية يشكل مخالفة قانونية، على اعتبار أنه لا يجوز الاعتداء على المخزون المائي في قطاع غزة، لأن هناك تغيرات كبيرة طرأت على هذا المخزون، مشددا على أن أي أبار تحفر بغير رخصة يعتبر بمثابة صرف جائر للمياه و اعتداء على حق كل مواطن في التنعم بوفرة المياه سواء بالزراعة أو النظافة أو الشرب .
وأقر موسى بأن ما اسماه "فوضى الآبار" قائمة منذ سنوات إلى الآن، ولم يوضع لها قانون يمنع ويحاسب المخالفين، غير أنه عاد وقال "هناك قفزات في هذا الاتجاه، لكن هناك مخالفات دائمة حيث يتم القيام بحفر الآبار سرا بعد انتهاء أوقات العمل الرسمية، لذلك هناك ملاحقات دائمة، ولكن الجهد المبذول في معالجة تلك القضية ليس بالقدر الكافي، لذلك لجنة العمل الحكومي وسلطة المياه هي مسؤولة على أن تضع الأنظمة المناسبة للحد من عملية الاستنزاف العشوائي للمياه الجوفية".
هذه المادة نشرت بالتعاون مع مؤسسة بيت الصحافة.