استسلم الطفل نهاد ربيع (12 عاماً) إلى نتيجة رسوبه في اختبار إلكتروني لم يتجاوز ثمانية أسئلة، فقد تسببت إعاقة وصول الطفل إلى دروسه عبر مجموعة واتساب التعليمية، إلى الإخفاق في تقديم الاختبار.
تقول والدة الطفل ربيع، إنه بات ينفر من فكرة الاستجابة لحل البطاقات التعليمية التي ترد عبر الواتساب، بسبب تذبذب وصول الانترنت. وقالت "ما لم يكن التعليم وجاهياً فإن جيلاً كاملاً يخسر مستقبله الآن، دون أن يلتفت أحد إلى هذه الكارثة".
وفي الواقع، ينتهي عامٌ دراسي في قطاع غزة ويبدأ آخر، دون أن يجلس الطلبة على مقاعد الدراسة، أو يقرأون في كتابٍ دراسي، وذلك بعدما عطلت الحرب الإسرائيلية الأخيرة القطاع التعليمي بشكلٍ شبه كامل، وانقطاع آلاف الطلبة لشهورٍ طويلة عن الدراسة ثم عودة تدريجية للتعليم الالكتروني.
اليوم وفي ظلّ الدمار الذي خلّفته الحرب على قطاع غزة، يواجه النظام التعليمي بكل فئاته تحدٍّيات غير مسبوقة لم يعهدها من قبل مطلقًا.
وفي الوقت الذي أصدرت فيه وزارة التربية والتعليم العالي، بيانًا أعلنت فيه بدء العام الدراسي الجديد 2024-2025، تساءل الآلاف من الطلبة عن إمكانية العودة إلى مقاعد الدراسة سواء وجاهيًا أو الكترونيًا في ظلّ دمار القطاع التعليمي وانهيار منظومة الاتصالات في كثيرٍ من المناطق.
وعلى الرغم من أن الوزارة أكّدت التزامها بضمان حق التعليم لجميع الطلبة، سواء من خلال المدارس القائمة أو تلك التي رُمِمت، أو عبر النقاط التعليمية البديلة، مستعرضة طرق الوصول الإلكتروني للفصول الدراسية، غير أنّ عموم الطلبة يواجهون تحديّات مضاعفة نتيجة تحدّيات الوصول إلى المدارس بحكم تغير مناطق سكناهم نتيجة تدمير مساكنهم، أو محدودية وصول الانترنت والكهرباء.
ومن ناحية نظرية يبدو التعليم الإلكتروني فرصة جيدة مرحليًا، غير أن الواقع المتردي يجعل من إمكانية متابعة الدراسة عبر الانترنت مُكلّفة جدًا نظرًا لارتفاع تكلفة الهواتف الخلوية وخطوط الانترنت الثابتة؛ إضافة إلى غلاء بطاقات الانترنت الخاصة بالشبكات العامة.
أحمد عياد، طالب في المرحلة الثانوية، عاد منذ فترةٍ وجيزة إلى بيته المدمر جزئيًا في منطقة الشجاعية شرق مدينة غزة، وذلك بعد نزوح مرير في جنوب قطاع غزة، يقول: "كنت متفوقًا في دراستي، لكن الآن لا أملك حتى حقيبة مدرسية، الكتب مفقودة، والإنترنت غير متوفر في المكان الذي أعيش فيه، فكيف لي أن أدرس عبر التطبيقات الإلكترونية؟".
لا تتوقف تحدّيات التعليم عند الطلبة أنفسهم بل تتجاوزهم إلى أولياء أمورهم، فهذه أسماء أيمن (37 عامًا)، أرملة وأمّ لثلاثة أطفال في المرحلة الأساسية، تعيش قلقًا دائمًا بشأن عودة أبنائها إلى المدرسة.
تقول أسماء بحسرة: "قبل الحرب، كنت بالكاد أتمكن من توفير احتياجاتهم المدرسية من ملابس وقرطاسية ومصروف يومي، أما الآن، فلا أملك حتى ثمن دفتر أو قلم، فكيف يمكنهم العودة إلى الدراسة؟".
كانت أسماء تعتمد على المخصص المالي الذي تصرفه وزارة الشؤون الاجتماعية (شيك الشؤون) كل ثلاثة أشهر، لكن بعد توقف هذه المساعدات، اضطرت للبحث عن بدائل. اليوم، يعاونها أطفالها في بيع الحلوى التي تصنعها في منزلها من المواد التي تحصل عليها من الطرود الإغاثية المقدمة من المنظمات الأممية. ورغم ذلك، بالكاد تتمكن من تلبية احتياجات أسرتها الأساسية. تتساءل بقلق: "كيف لي أن أوفر مصاريف الدراسة، وأنا بالكاد أستطيع تأمين لقمة العيش؟".
وفي ظلّ انقطاع الكهرباء المتكرر وتذبذب وصول الإنترنت في العديد من المناطق، يصبح التعليم عن بُعد رفاهية غير متاحة للجميع. هبة زكريا، طالبة في الصف الحادي عشر، تعيش في منزل بسيط، تقول: "لا نملك هاتفًا ذكيًا أو لابتوبًا في المنزل، لذلك لا أستطيع متابعة دروسي عبر الإنترنت، أضطر للذهاب إلى بيت جارنا أحيانًا لأستخدم هاتفهم، لكنه لا يُتاح لي دائمًا".
وما يزيد الطين بلة، أن هناك الآلاف من السكان لازالوا يقطنون المدارس بوصفها مراكز إيواء ويرفضون مغادرتها نتيجة عدم امتلاك مسكن بديل.
وطال القصف والتدمير نحو 123 مدرسة وجامعة بالكامل، فيما تضررت 335 أخرى جزئيًا، مما أدى إلى حرمان أكثر من 625,000 طالب وطالبة من الوصول إلى التعليم، وفق المكتب الإعلامي الحكومي بغزة. ومع ذلك، فإن ما تبقى من المدارس تحولت إلى ملاجئ لإيواء العائلات النازحة.
وسام خلف (58 عامًا) فقد بيته في حي النصر بشكلٍ كامل، ومنذ ذلك الحين نزح في أكثر من مكان إلى أن استقر في مدرسةٍ حكومية هو وعائلته المكونة من (9 أفراد)، يقول: "لا أعرف أين أذهب، أسعار إيجارات البيوت مرتفعة جدًا وأنا خسرت عملي في النجارة، ولم أحصل على خيمة أو كرفان حتى الآن".
وعلى غرار خلف هناك آلاف العائلات ما زالت تمكث في مراكز الإيواء من المدارس والمعاهد وغيرها في ظلّ انقطاع السبل أمامها، وعدم وجود أيّة انفراجات في عملية إعادة الإعمار أو توفير بدائل إيجار أسوة بالتجارب السابقة للحروب على غزة.
المعلمون أيضًا يواجهون صعوبات كبيرة في العودة إلى التعليم من جديد. المعلمة ندى جابر، معلمة مرحلة أساسية في إحدى مدارس الأونروا شرق غزة، تقول: "لدينا متابعة الكترونية مع الطلبة لساعتين يوميًا عبر مجموعات واتساب، لكنني أعاني كثيرًا في الحصول على الانترنت لمواصلة المتابعة والتواصل مع أولياء أمورهم، والكثير منهم لا يتواجد ولا يتفاعل نظرًا لهذه المشكلة".
وتتطلب الأوضاع الحالية، حلولًا نوعية للتخفيف من آثار الحرب على الطلبة، وفقًا لما أشارت إليه المختصة التربوية حكمت المصري، وقالت: "في ظل فقدان البنية التحتية المدرسية وصعوبة الوصول إلى الإنترنت، يجب التركيز على التعليم التشاركي والمجتمعي، بحيث يتم إنشاء مجموعات دراسية صغيرة بين الطلبة بإشراف الأهالي أو معلمين متطوعين، خاصة في المناطق التي لا تتوفر فيها بيئة تعليمية مناسبة."
وتضيف المصري أن تعزيز التعليم التكيفي يعدّ من أهم الحلول، حيث يمكن للمعلمين استخدام طرق تعليمية مرنة، مثل تبسيط المناهج والتركيز على المهارات الأساسية بدلًا من المحتوى المكثف، إضافة إلى الاعتماد على مواد تعليمية مطبوعة للطلبة غير القادرين على الوصول إلى التعليم الإلكتروني.
وتشدد المختصة التربوية على ضرورة الدعم النفسي للأطفال، قائلة: "لا يمكن فصل العملية التعليمية عن الصحة النفسية، فالكثير من الطلبة يعانون من صدمات نفسية بسبب الحرب. لذا، يجب دمج الأنشطة الترفيهية والعلاج بالفن في العملية التعليمية، وتوفير برامج دعم نفسي لمساعدتهم على التكيف والاستمرار في التعلم."
ومما لا شك فيه فإنّ للمؤسسات المحلية والدولية دور في توفير الدعم اللوجستي والتعليمي. وأشارت المصري إلى أهمية إدخال الأدوات المدرسية والقرطاسية للطلبة، وتأمين حلول مبتكرة مثل الفصول المتنقلة أو الدراسة عبر الراديو والوسائل البديلة، لضمان حق التعليم للجميع رغم الظروف الصعبة.
في سياق البحث عن حلول لأزمة التعليم في قطاع غزة، عبّر المتحدث باسم وزارة التربية والتعليم، صادق الخضور، عن إدراك الوزارة لحجم التحديات التي تعصف بالطلبة وأسرهم. وقال الخضور لـ "آخر قصة": "ندرك أن التعليم الإلكتروني ليس حلًا شاملًا، لكنّه الخيار المتاح حاليًا في ظلّ الدمار الواسع للبنية التحتية وغياب المدارس المؤهلة لاستقبال الطلبة".
وأشار الخضور إلى أن الوزارة تعمل بالتنسيق مع شركات الاتصالات لتوفير نقاط إنترنت مجانية في بعض مراكز الإيواء، لكنها تواجه تحديات كبيرة في المناطق التي دُمِّرت شبكات الاتصال فيها بالكامل. وقال: "حجم الكارثة يفوق إمكاناتنا الحالية، ونعمل بأقصى طاقة لتأمين بدائل تعليمية ولو بالحد الأدنى".
ورغم ذلك، يقرّ الخضور بأن الحلول الحالية بطيئة ولا تلبّي احتياجات جميع الطلبة، مشيرًا إلى أن الوزارة أطلقت برامج تعليمية تعتمد على الدراسة الذاتية وتوزيع مواد مطبوعة في المناطق التي يستحيل فيها الاتصال بالإنترنت. وأضاف: "الحل الأمثل هو العودة إلى التعليم الوجاهي، لكن ذلك مرتبط بإعادة الإعمار وتهيئة المدارس مجددًا، وهو ما يحتاج إلى تدخل دولي عاجل".
يواجه الطلبة في غزة، خاصة الفقراء منهم، معركة يومية من أجل حقهم في التعليم وسط ظروف قاسية، وبينما تتواصل الجهود لاستعادة الحياة الدراسية، يبقى السؤال مفتوحًا: إلى متى سيظل طلاب غزة يقاتلون من أجل حقهم الأساسي في التعلم؟
موضوعات ذات صلّة:
فرص انعاشه هشة: مستقبل التعليم في غزة مجهولاً
التعليم في غزة