يعيش آلاف المصابين العالقين خارج غزة معاناة لا تقل قسوة عن إصاباتهم، إذ اضطروا لمغادرة القطاع بحثًا عن علاج بعد جهد مضني، لكنهم وجدوا أنفسهم مغتربين محاصرين في انتظار فتح معبر رفح البري بما يمكنهم من العودة إلى ديارهم.
سميرة ثاري (40 عامًا) واحدة من هؤلاء المرضى، فقد أجبرتها إصابتها خلال قصف طال مدرسة أبو حسين في جباليا شمال قطاع غزة، على ترك أطفالها الستة ومغادرة القطاع والسفر لتقي العلاج، تاركة وراءها معاناة لا تنتهي.
في البداية، تلّقت سميرة العلاج في المستشفى الإندونيسي شمال غزة، لكنها نُقلت لاحقًا إلى المستشفى الأوروبي جنوب القطاع بسبب تدهور حالتها الصحيّة. حصلت على تحويلة للعلاج في مصر، حيث تلقت الرعاية في السفينة الإيطالية بميناء العريش، قبل أن تُحوَّل إلى قطر لاستكمال رحلة علاجها.
ومنذ عام تقريبا، تنتظر هذه السيدة فتح معبر رفح لتجتمع مع أطفالها الذين يعيشون أوضاعًا صعبة في غزة، وعن ذلك قالت: "أطفالي يعانون وحدهم الجوع والخوف في غزة ويعاني أحدهم من إصابة حرب، والآخر من مرض في القلب، بينما تعاني ابنتي من مشاكل في السمع، وأنا عالقة هنا أتلهف شوقاً لرؤياهم".
سميرة ليست وحدها في هذا المصير؛ آلاف الفلسطينيين العالقين خارج غزة يواجهون المصير ذاته، على أمل أن يسمح لهم بالعودة إلى غزة. في المقابل، هناك نحو 35 ألف جريح ينتظرون دورهم في السفر للعلاج بالخارج.
منذ اجتياح الجيش الإسرائيلي لمدينة رفح في مايو/أيار 2024، أُغلق معبر رفح، مما أدى إلى أزمة إنسانية خانقة، سواء للعالقين في الخارج أو للمرضى الذين ينتظرون السفر لتلقي العلاج خارج غزة.
ورغم وقف إطلاق النار في يناير 2025، إلا أن آلية السفر التي حُددت للمرضى لم تكن كافية لتلّبية الاحتياجات المتزايدة، وفقاً لشكاوى الكثير من المرضى.
وتواجه الجريحة ولاء سليم مصيرًا مشابهًا، إذ وجدت نفسها عالقة بين ألم الإصابة وفقدان الأسرة. وأصيبت آلاء خلال قصف استهدف منزلًا ملاصقًا للمدرسة التي كانت تنزح فيها، وكانت حاملاً آنذاك.
نجت ولاء بأعجوبة لكنها فقدت جزءًا من حياتها، فبينما كانت ترقد مصابة، استشهدت ابنتها الكبرى في قصف استهدف طريق نزوحهم نحو الجنوب، فيما أصيبت ابنتها الصغرى بجراح خطيرة.
تقول والعبرة تخنقها مستذكرة تلك الأوقات، "حصلت طفلتي المصابة على تحويلة طبية للعلاج في قطر رفقة جدتها، بينما بقيت وحدي في غزة أواجه واقعًا صعبًا ومريرًا حتى حصلت لاحقًا على تحويلة للعلاج ولكن إلى مصر".
تردف ولاء بصوت مرتبك: "عانيت نقص الرعاية الطبية وظروف معيشية قاسية دفعتني إلى بيع ما تبقى من مصاغي لتأمين احتياجاتي اليومية".
في ظلّ تلك الصعوبات، لم يكن أمامها خيار سوى المحاولة مجددًا، وبعد جهود مضنية، تمكّنت من السفر إلى قطر للاجتماع بابنتها ومتابعة علاجها. وعلى الرغم من أن لقاءها بابنتها كان لحظة فارقة، إلا أن تبعات الحرب والنزوح والشتات لم تفارقها، إذ لا تزال تعاني مشاعر القلق والتشتت بعد أكثر من عام من الرحيل عن غزة.
في حديثها لـ "آخر قصة"، عبّرت آلاء عن صعوبة الحياة بعيدًا عن الوطن، وقالت: "الجرح ليس فقط في جسدي، بل في روحي أيضًا، فكل يوم أعيش ألم الفقد وانتظار العودة، كنت شديدة التعلق بوالدي، وفراقه ترك أثرًا بالغًا في نفسي".
تردف بصوتٍ باكٍ، "والدتي أيضًا لا تتوقف عن البكاء شوقًا لوالدي وإخوتي، غرقنا معًا في حالة من الاكتئاب، حتى أننا بدأنا متابعة جلسات مع مختص نفسي. إلى جانب ذلك، أعاني في التعامل مع طفلتي التي تفتقد والدها باستمرار، وتطلب مني العودة، وتنتظر خبر فتح المعبر بفارغ الصبر".
يعيش العالقون في الخارج حالة من الضغط النفسي العميق نتيجة الانفصال عن عائلاتهم والبيئة التي اعتادوا عليها، وفقًا لما أكد عليه المختص الاجتماعي عرفات حلس، حيث أنَّ هذا الانفصال يفاقم شعور الوحدة والاغتراب لديهم.
ويوضح حلس أن هذه الأزمة النفسية ليست فقط نتيجة الفقدان الجسدي، بل أيضًا نتيجة غياب الأفق الواضح بشأن موعد عودتهم إلى ديارهم.
كما يخلق طول فترة العلاج خارج البلاد لدى العالقين توقعات متناقضة بين الأمل في التعافي والعودة، وبين الخوف من المجهول، خاصة في ظل الأخبار المتضاربة حول احتمال عودة فتح المعبر من عدمه، وفقًا لحلس الذي لفت إلى أن العالقين، سواء كانوا جرحى أو مرافقيهم، يواجهون تحدّيات إضافية تتعلق بالتكيف مع بيئات جديدة، مما يزيد من الضغوط النفسية عليهم.
لم تقتصر معاناة العالقين على الجرحى فحسب، بل شملت المرضى أيضًا، ويزداد تأثيرها وطأة على الأطفال منهم. عُدي صلاح (12 عامًا)، أحد الذين اضطروا لمغادرة غزة إلى القاهرة للعلاج من السرطان، لكن والده مُنع من السفر معه، فرافَقته جدته وعمته في هذه الرحلة الصعبة.
يقول عُدي لـ "آخر قصة": "اشتقت كثيرًا لأمي وأبي وإخوتي، وكان لهذا أثر كبير على نفسيتي أثناء العلاج، تمنيت لو أنني لم أغادر غزة وبقيت معهم، حتى أنني رفضت الالتحاق بأيّ نشاط تعليمي، فأنا لا أريد سوى العودة إلى مدرستي ومعلميّ هناك".
اليوم، يحاول عُدي التعافي من مرض أنهكه على مدار عام كامل، لكن اشتياقه لعائلته يفوق أي شيء آخر. يتابع باستمرار أخبار معبر رفح عبر الإنترنت، وينزعج من الشائعات المتكررة عن قرب حلّ أزمة العالقين؛ ومع ذلك، لا يزال يأمل أن يكون من أوائل العائدين إلى غزة ليعانق والديه.
حول كيفية التعامل مع هذه التحدّيات التي يواجهها هؤلاء العالقين، نصح المختص النفسي "حلس" بضرورة إيجاد طرق تخرجهم من دوامة الانتظار السلبي، مثل الانخراط في تعلّم مهارات جديدة، والبحث عن طرق إيجابية لاستغلال الوقت، إلى جانب محاولة بناء علاقات اجتماعية في البيئة التي يعيشون فيها حاليًا، مما قد يساعدهم على تجاوز بعض آثار الصدمة النفسية.
في ظلّ المشهد الضبابي الذي يُحيط بقطاع غزة، تبقى قضية العالقين دون حلّ واضح، إذ تتعاظم معاناتهم يومًا بعد يوم في ظل استمرار إغلاق معبر رفح وتقييد حركة السفر. فبينما ينتظر آلاف الفلسطينيين العودة إلى ديارهم بعد رحلة علاج طويلة ومضنية، يترقب آخرون فرصة السفر لإنقاذ حياتهم أو تحسين أوضاعهم الصحية.
وعلى الرغم من المناشدات المستمرة، لا تزال الاستجابة بطيئة؛ مما يضاعف إحساس العالقين بالغربة والخذلان، ومع تفاقم الأزمة وتعثر الحلول، يعيش هؤلاء الفلسطينيون بين أمل العودة وخوف البقاء عالقين إلى أجلٍ غير مسمى، في انتظار لحظة قد تعيد لهم بعضًا من الاستقرار المفقود.
مواضيع ذات صلّة:
الطلبة العالقين: أحلامٌ مؤجلةٌ على رصيفِ الحرب
عالقون في الضفة: قلوب العمال معلقة في غزة
خروج من قفص غزة: تجارب السفر الأولى
آمال 25 ألف جريح ومريض غزي معلقة بإعادة فتح معبر رفح
الجرحى العالقون