هل تتخيل شهر رمضان بدون زينة أو فوانيس؟ وأجواء فرحة تسوق الطرقات والأسواق؟، هل تتخيله بدون صخب المقاهي وفرحة التجمعات العائلية؟.
في ليالي رمضان الماضية، كانت شوارع غزة تتحول إلى لوحة مضيئة، تزينها الفوانيس الملونة التي تعلّقت بها قلوب الأطفال. كانت المقاهي والمطاعم المطلة على شاطئ البحر تعج بالحياة، حيث تجتمع العائلات والأصدقاء حول موائد الإفطار والسحور، وتعلو أصوات الضحكات والأناشيد وجلسات المديح.
أما اليوم، فقد اختفت هذه الصورة تمامًا، وغرقت الشوارع بالظلام الدامس، مما يعيق حركة السكان بين الأنقاض التي خلفتها الحرب والتي تزيد زنتها عن 50 مليون طناً.
مع تدمير معظم المقاهي والفنادق والمطاعم خلال الحروب الأخيرة، تلاشى صخب رمضان الذي كان يملأ الشوارع. لم تعد هناك أماكن للتجمع، ولم تعد الأجواء المفعمة بالحيوية والفرح موجودة.
"كنا ننتظر رمضان كل عام لنخرج إلى المقاهي ونستمتع بالأجواء الرمضانية، أما الآن، فلم يبقَ شيء من ذلك"، يقول أحمد خليل، شاب في العشرينيات من عمره، بينما يتجول في شوارع غزة الخالية من أي علامات للفرح.
أحمد الذي أنهى تعليمه الجامعي قبل الحرب بأشهر قليلة، ولم يجد فرصة عمل، قال إن الجلوس على الشاطئ في ليال رمضان كان يخفف من حدة الضغوطات التي يتعرض لها كشاب عاطل عن العمل. غير أن تردي الوضع الحالي نتيجة الحرب ودمار البنى التحتية والفقر السائد، زاد الضغوطات على كاهله وعشرات الآلاف من الشباب العاطلين عن العمل.
قمنا بجولةٍ في مجموعة من الأسواق المحلية داخل قطاع غزة، فلم نجد أي مظاهر للزينة أو أجواء للفرحة. اقتصر تكدّس المشترين على شراء الاحتياجات الأساسية كالأجبان والأرز والمعلبات. أما الفوانيس والزينة الرمضانية، التي كانت تملأ الأركان في السنوات الماضية، اختفت تمامًا من الرفوف، وحل مكانها كتل ركام، أو مواد غذائية.
خلال تجوالنا سألنا نور عبد الرحمن (29 عامًا) عن سرّ تواجدها في السوق، قالت إنها تبحث عن حليب الأطفال. "معطيات انهيار التهدئة تجعلني أخشى أن تفقد طفلتي ذات الأشهر التسعة احتياجها من الحليب"، تقول نور بقلق واضح.
وأضافت وهي تعصر كفيها "كل شيء أصبح غير مضمون، ولا نعرف متى قد تنقطع الإمدادات مرة أخرى، وبخاصة مع حالة الاحتكار والغلاء الفادح، وغياب أوجه الرقابة".
مع حلول المساء، يتحول شاطئ البحر إلى ساحل أشباح، وبخاصة مع تكدس أكوام الركام على جانبي الطريق (شارع الرشيد) الذي كان يشع حيويةً، لاسيما مع انتشار باعة الذرة المشوية والأكشاك الصغيرة التي كانت ملاذًا لعشاق القهوة ومحبي ممارسة النشاط الرياضي على الكورنيش.
اليوم، لم يعد هناك إلا الصمت والظلام، حيث تحوّل الشاطئ الذي كان يوماً ما مصدرًا للفرح والاسترخاء إلى مكان مهجور يذكر السكان بأيامٍ أكثر إشراقًا، غطاها دخان الحرب.
تقول مرام سامي (22 عاماً) وهي تنظر إلى شاطئ البحر وقد بدا خالياً من الناس: "كنا نأتي هنا كل مساء، نشرب القهوة ونستمتع بمنظر البحر نأكل الكنافة المطهوة على الفحم، والذرة المشوية، أما الآن، فلم يعد هناك شيء سوى الركام والذكريات".
و تكشف الأرقام حقيقة الواقع المرير، حيث تظهر نتائج تقرير صادر عن الأمم المتحدة، أن أكثر من 80% من سكان غزة يعيشون تحت خط الفقر، مع ارتفاع معدلات البطالة إلى نحو 60%. وتشير الإحصاءات إلى أن 70% من الأسر في القطاع تعتمد على المساعدات الإنسانية لتلبية احتياجاتها الأساسية، بما في ذلك الغذاء والماء والدواء.
وعلى ضوء تردي الأوضاع الاقتصادية بسبب الحصار المستمر منذ أكثر من 17 عامًا، بالإضافة إلى التداعيات الاقتصادية للحرب الأخيرة على غزة والتي استمرت 13 شهراً، ارتفعت أسعار السلع الأساسية بنسبة تتجاوز 60 % مقارنة بالأعوام السابقة.
هذا الارتفاع غير المسبوق في الأسعار جعل السلع البسيطة مثل الفوانيس والزينة الرمضانية ترف بعيد عن متناول الكثيرين، وحل محلها احتياجات أساسية كالخضار والمعلبات والحلاوة والمربى، بوصفها سلعاً أساسية على موائد السحور.
ينعكس هذا الواقع بشكل كبير على الفئات المجتمعية الهشة بما في ذلك النساء، وتشير بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أن أكثر من 30% من الأسر في غزة ترأسها نساء، بسبب فقدان المعيل أو استشهاده نتيجة الحرب.
تلك الأسر تعاني بشكل مضاعف، حيث تواجه النساء تحديات كبيرة في توفير الاحتياجات الأساسية لأطفالهن في ظل غياب الدعم الكافي، لاسيما مع تراجع فرص الدعم الذي تقدمه المنظمات الأممية بسبب الحصار.
وإذا كان من المفترض أن يشكل رمضان، مصدراً لتعزيز التغذية لدى الأطفال وبخاصة مع تناول البروتين والبيض والأجبان الذي يمكن أن تحملها المساعدات الإنسانية إليهم، أصبحت موائد الفئات الهشة خالية من كل ذلك.
تقول منظمة "اليونيسف" إن 68% من الأطفال في غزة يعانون من آثار نفسية جراء الحروب المتكررة، بينما يعاني 40% من السكان من انعدام الأمن الغذائي.
"لم يعدّ رمضان كما كان"، يقول خالد عمران، وهو أب لخمسة أطفال، بينما يحاول أن يشرح لصغاره سبب عدم وجود فوانيس هذا العام، أو طعام كاف على موائد الإفطار والسحور: "الأطفال ينتظرون رمضان بفارغ الصبر، لكننا لم نعد قادرين على توفير أبسط متطلباتهم، فالاحتياجات كثيرة والدخل معدوم ومع هذا كله لا توجد مساعدات".
وعادةً عندما تغيب أوجه الفرح تسود الكآبة وتزداد معها التداعيات النفسية بالنسبة للسكان، وهو أمر أوضحته الأخصائية النفسية أمل عياد، التي أشارت إلى أن غياب طقوس رمضان التقليدية، مثل الفوانيس والزينة والاجتماعات العائلية، له تداعيات نفسية عميقة على سكان غزة.
وأشارت الأخصائية عياد إلى أن رمضان ليس مجرد شهر للصيام، بل هو أيضًا شهر للفرح والتواصل الاجتماعي، وغياب هذه الطقوس "يؤدي إلى زيادة الشعور بالعزلة والاكتئاب، خاصة بين الأطفال الذين يفقدون جزءًا مهمًا من هويتهم الثقافية".
وقالت عياد: "انعدام الأفق السياسي وغياب الحلول الدائمة للصراع يزيد من حالة اليأس التي يعيشها السكان، حيث أن الناس بدأت تشعر بأنها محاصرة في دوامة من المعاناة دون أي أمل في التغيير، أو أفق لانتهاء الحرب واحلال الهدوء والاستقرار".
وتشكل الحياة الكريمة حقا من حقوق الإنسان بموجب القانون الدولي، وهذا يعني أن ما يعانيه السكان في غزة نتيجة الحرب والحرمان من أبسط الاحتياجات يشكل انتهاكاً لحقوقهم.
وبموجب القانون الدولي، لكل فرد الحق في حياة كريمة، بما في ذلك الحق في الغذاء والمأوى والصحة والتعليم، ويعرج المحامي شادي محمود على هذا الواقع بالقول: "الحصار المفروض على غزة ينتهك بشكل صارخ حقوق الإنسان الأساسية، فالحق في الحياة الكريمة لا يقتصر على البقاء على قيد الحياة فقط، بل يشمل أيضًا القدرة على العيش بكرامة والتمتع بالحقوق الثقافية والاجتماعية، وغيرها".
ويضيف محمود: "القانون الدولي يلزم الدول بضمان توفير الاحتياجات الأساسية للسكان، بما في ذلك الكهرباء والماء والغذاء، ومع ذلك، فإن ما نراه في غزة هو انتهاك مستمر لهذه الحقوق، دون أي محاسبة دولية فاعلة".
ورغم جملة التحدّيات والظروف القاسية التي يعيشها السكان في غزة، لا يزال البعض يحاولون صناعة الأمل. فبعض العائلات لجأت إلى صنع فوانيس بسيطة من المواد المتوفرة في المنزل، كعلب الكرتون والأوراق الملونة، لتعيد بعضًا من البهجة إلى أطفالها.
"صنعت لابني فانوسًا من علبة فول، فرح به كثيرًا"، تقول سمر، وهي أم في بداية العقد الرابع، وتضيف وهي تخفي ابتسامتها: "أبي كان دائما يشرح لنا عن طفولته في المخيم، وكيف أنهم كانوا يصنعون البهجة من خلال تحويل المعلبات إلى فوانيس، وقد استفدت من هذه التجربة وصنعت لطفي فانوساً مثقباً من الخلف يتوسطه شمعة صغيرة مضيئة، معلق بسلك حديدي يدور به في الشارع، ويبدو بالنسبة للأطفال أنه فانوس مثير للدهشة".
رمضان في غزة هذا العام ليس كسابقيه، لكنه يظل رمضانًا يحمل في طياته قصصًا من الصمود والأمل، ففي قلب الظلام، لا يزال هناك من يحاول أن يُضيء شمعة، ولو صغيرة، لتبقى روح الشهر الكريم حية في القلوب.
رمضان شاطئ غزة