كيف يمكن النهوض باقتصاد غزة؟ 

كيف يمكن النهوض باقتصاد غزة؟ 

في أعقاب الحروب، لا تقتصر الأضرار على الخسائر البشرية فقط، بل تمتد إلى انهيار البنية التحتية وتدمير الاقتصاد؛ مما يجعل التعافي عملية شاقة ومعقدة. 

قطاع غزة، الذي عانى من حصار مستمر لأكثر من 17 عامًا، يواجه اليوم واقعًا اقتصاديًا كارثيًا بعد الحرب التي استمرّت خمسة عشر شهرًا ووصفتها منظمات حقوقية بـ "حرب إبادة جماعية"، إذ شلّت جميع أركان الحياة ودمّرت جميع قطاعات بما فيها المصانع والأسواق، وتوقف الإنتاج، وارتفعت معدلات البطالة والفقر بشكلٍ غير مسبوق.

لم يكن القطاع قبل الحرب في وضع اقتصادي مستقر، لكنه اليوم يواجه أسوأ أزماته على الإطلاق. يعيش 2.3 مليون إنسان في ظروف مزرية، بينما فقد عشرات الآلاف مصادر دخلهم، وتواجه العائلات صعوبات يومية في تأمين الاحتياجات الأساسية. مع ذلك، يُطرح سؤال جوهري: هل يمكن لغزة النهوض مجددًا؟ وما هي الخطوات الممكنة لتحقيق ذلك؟

في هذا التقرير، نستعرض حالة الاقتصاد بعد الحرب، ونعرض تجارب دول أخرى خرجت من حروب سابقة مدمرة واستطاعت إعادة بناء اقتصادها، لنستخلص منها الدروس التي يمكن تطبيقها في قطاع غزة.

تعرّضت معظم المنشآت الاقتصادية في غزة إلى تدمير جزئي أو كامل، بما في ذلك المصانع، والمزارع، والمحال التجارية. وفقًا لوزارة الاقتصاد، فقد تم تدمير أكثر من 1,000 منشأة صناعية وتجارية؛ مما أدى إلى توقف شبه كامل للقطاع الصناعي.

يقول أحمد ناجي، وهو صاحب مصنع ملابس في غزة تم قصفه خلال الحرب، "خسرت كل شيء في لحظة واحدة، كنت أشغل أكثر من 50 عاملًا، والآن لا أملك حتى مكان للعمل"

يردف ناجي بكثيرٍ من الأسى يظهر على قسمات وجهه، "المشكلة ليست فقط في الدمار، المعضلة الأكبر أننا قد نحتاج سنوات للتعافي مما خسرناه في ظلّ غياب أي دعم أو تعويض حاليًا قد يساعدنا على البدء من جديد."

إلى جانب ذلك، قام الاحتلال الإسرائيلي بقطع إمدادات المياه والكهرباء والقود لقطاع غزة منذ بدء الحرب في أكتوبر 2023؛ مما تسبب في تدمير 80% من مرافق قطاع المياه، وجعل إعادة تشغيل المصانع والورش شبه مستحيلة.

على صعيدٍ آخر، كانت غزة تعاني قبل الحرب من واحدة من أعلى نسب البطالة في العالم، حيث بلغت نحو 45%، لكنها اليوم تتجاوز 80%، وفق تقديرات محليّة ودولية.

يقول محمد سليمان، وهو عامل بناء فقد عمله بسبب توقف مشاريع الإعمار، "لم أجد أي فرصة عمل منذ بداية الحرب. كل المشاريع توقفت، وأصحاب الأعمال أنفسهم يعانون، اضطررت للبحث عن أي فرصة لكسب قوت يومي، فأصبحت أبيع على بسطة معلبات وبعض مواد تنظيف".

مع غياب فرص العمل، زادت معدلات الفقر بنسبة وصلت إلى 100%، وأصبحت معظم العائلات تعتمد بالكامل على المساعدات الإنسانية، التي تعاني هي الأخرى من نقص كبير بسبب الحصار المفروض بفعل الحرب الإسرائيلية.

وبسبب الحصار وإغلاق المعابر نتيجة الحرب على قطاع غزة، توقفت عمليات الاستيراد والتصدير؛ مما أدى إلى نقص حاد في المواد الخام والسلع الأساسية؛ كما شهدت الأسواق ارتفاعًا كبيرًا في الأسعار نتيجة فوضى السوق والاحتكار والاستغلال وسط انعدام الرقابة وقلة المعروض، بينما تراجعت القوة الشرائية للسكان.

يقول أحمد برهوم، وهو تاجر خضراوات، "في الحرب كنا لا نستطيع إدخال معظم البضائع، وإن دخلت تكون بتكاليف مرتفعة جدًا، والناس عانت جدًا من عدم مقدرتها على شراء الأساسيات، وهناك ركود تجاري غير مسبوق."

نزح برهوم من رفح جنوب قطاع غزة إلى مواصي خانيونس، وفقد عمله تمامًا في بيع الخضروات والفواكه، نتيجة خسارة رأس ماله المقدّر بعشرات آلاف الشواكل، وكذلك نتيجة الإغلاق الشديد ومنع إدخال هذه الأصناف إلى أسواق قطاع غزة.

بينما يواجه قطاع غزة أزمة اقتصادية غير مسبوقة، يبرز التساؤل حول إمكانية النهوض مجددًا رغم الدمار الواسع وانهيار كافة القطاعات. 

في هذا الإطار يتحدث خبراء اقتصاديون حول تجارب العديد من الدول التي مرت بحروب مدمرة واستطاعت إعادة بناء اقتصادها تقدم دروسًا مهمة يمكن الاستفادة منها في السياق الغزي، فكيف تمكنت هذه الدول من استعادة عافيتها الاقتصادية؟ وما العوامل التي أسهمت في نجاحها؟

يُذكر أن ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، قدمت نموذجًا لإعادة الإعمار السريع، إذ حصلت على دعم من برنامج مارشال، لكنها اعتمدت أيضًا على إصلاحات اقتصادية ودعم التصنيع وريادة الأعمال.

وينصح خبراء أنّه يمكن لغزة أن تستفيد من هذا النموذج عبر جذب استثمارات دولية، وتحفيز القطاع الصناعي، وتشجيع المشاريع الصغيرة.

كذلك عملت البوسنة والهرسك على تعزيز القطاعات الإنتاجية بعد الحرب الأهلية، إذ استعادت البوسنة عافيتها عبر تحفيز الزراعة والصناعات الصغيرة وجذب الاستثمارات الخارجية.

ومن هنا يمكن لقطاع غزة الذي يتمتع بإمكانيات زراعية غير مستغلة، أن تعمل الجهات المحلية الرسمية وغير الرسمية على تطوير هذه الإمكانات لدعم الأمن الغذائي وتوفير فرص العمل.

إلى جانب ذلك، عانت رواندا وهي دولية صغيرة في شرق إفريقيا ( 26,798 كم²) من إبادة جماعية ولكنها خرجت منها إلى اقتصاد مزدهر، خاصة بعدما اعتمدت على إصلاحات اقتصادية، من خلال خلق بيئة استثمارية جاذبة، وتنمية المشاريع الصغيرة؛ إذ تستطيع غزة الاستفادة من تجربة هذه الدولة في الاستثمار في التقنية والاقتصاد الرقمي لخلق فرص جديدة للشباب.

كيف يمكن لغزة النهوض مجددًا؟ يجيب المختص الاقتصادي محمد أبو جياب بأنّ إعادة بناء البنية التحتية لقطاع غزة التي تضررت بشكلٍ هائل بفعل الحرب، وذلك من خلال مقترحات مستقبلية في حال بدأت مرحلة إعادة إعمار القطاع. ومنها إصلاح محطات الكهرباء والمياه والطرق لضمان بيئة مناسبة للنشاط الاقتصادي، واستخدام الطاقة الشمسية كبديل لتوفير الكهرباء للمنازل والمصانع، وكذلك إعادة تأهيل المناطق الصناعية لدعم استعادة الإنتاج.

ويقول أبو جياب، "لا يمكن للاقتصاد أن يتعافى دون بنية تحتية قوية، الأولوية يجب أن تكون إعادة تأهيل المنشآت الحيوية، وتوفير حلول طاقة بديلة لمواجهة انقطاع الكهرباء".

كما يُشير إلى ضرورة دعم المشاريع الصغيرة وريادة الأعمال، وتوفير قروض ميسرة ودعم مالي للمشاريع الصغيرة بالإضافة إلى تعزيز دور التكنولوجيا والتجارة الإلكترونية لخلق فرص جديدة، وكذلك تشجيع التعاونيات الإنتاجية لمساعدة الأسر على تحقيق الاكتفاء الذاتي.

وينصح خبراء في مجال الأعمال والاستثمار إلى أهمية أن يتجه قطاع غزة إلى تعزيز القطاعات الإنتاجية المحلية، من خلال عدة قطاعات لا سيما الزراعة وذلك دعم المزارعين بتوفير البذور والمعدات وتعويض الخسائر، والصناعة وذلك بتطوير الصناعات الخفيفة مثل إعادة التدوير.

بالإضافة إلى أهمية الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد في ظلّ ما عانى منه القطاع من فوضى خلال مدة الحرب، من خلال وضع آليات شفافة لتوزيع المساعدات وإدارة إعادة الإعمار، وتعزيز دور القطاع الخاص والمجتمع المدني في التخطيط الاقتصادي، وأيضًا تفعيل دور الرقابة المالية والقضائية لضمان عدالة التوزيع.

إلى جانب ضرورة الانفتاح على الأسواق الخارجية، من خلال الضغط دوليًا لإعادة فتح المعابر لتسهيل حركة التجارة، وتطوير مناطق اقتصادية حرة لجذب الاستثمارات، وتعزيز العلاقات التجارية مع الدول الداعمة لغزة.

رغم حجم الدمار، فإن غزة تملك مقومات يمكن البناء عليها للنهوض مجددًا لاسيما كونها مدينة ساحلية ومجتمعها فتيّ. وذلك من خلال إعادة الإعمار، دعم الاقتصاد المحلي، تعزيز الحوكمة، والانفتاح على التجارة الخارجية، يمكن وضع أسس حقيقية لتعافٍ اقتصادي مستدام.

لكن النجاح في ذلك يتطلب إرادة سياسية قوية، وتخطيطًا اقتصاديًا استراتيجيًا، وتعاونًا بين جميع الجهات المعنية، لضمان تحويل هذه الأزمة إلى فرصة لإعادة بناء اقتصاد أكثر قوة واستدامة.

 

مواضيع ذات صلّة:

اقتصاد الحرب: أبرز تحولات سلوك الأفراد والأسواق

ثلاثة سيناريوهات اقتصادية تنتظر غزة

الحرب عطلت القوانين: المستهلكون ضحايا فوضى السوق