ناجون من الموت يروون تجاربهم مع الآلام النفسية

ناجون من الموت يروون تجاربهم مع الآلام النفسية

حاولت آسية محمد (20 عامًا) أن تسيطر على ارتعاش جسدها ونوبة البكاء التي اجتاحتها بعد منتصف الليل. نظرت حولها، فرأت وجوه عائلتها واحدًا تلو الآخر، مدت يدها لتلمسهم، لكن لا أثر لهم. أدركت في لحظةٍ خاطفة أن ما تراه ليس سوى خيال، فأسرتها بأكملها قُتلت في قصف إسرائيلي استهدف منزلهم في حي الزيتون بمدينة غزة، ونجت وحدها.

منذ 14 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتخيلات تنهش عقل آسية بلا توقف. تسأل نفسها كل ليلة: "لماذا بقيت وحدي على قيد الحياة؟". تعاني كوابيس متكررة وأرقًا دائمًا، وغالبًا ما تستيقظ متخيلة أن عائلتها بجانبها، قبل أن تدرك أنها مجرد أوهام. تردد بصوت خافت: "لا أريد أن أنام، فالنوم يعيدني إلى الكابوس ذاته".

تضيف آسية لـ "آخر قصة": "أرهقتني الكوابيس ونوبات البكاء المفاجئة، كثيرًا ما أستيقظ في منتصف الليل وأنا أشعر بوخزةٍ في صدري، ثم أجد نفسي في المستشفى وقد حقنوني بالمهدئات حتى أنام".

وكانت آسية تظن أنّ انتهاء الحرب سيمنحها بعض الهدوء النفسي، لكنّه لم يفعل، بل زادت حالتها سوءًا مع مشاهد لقاءات العائلات بين شمالي وجنوبي قطاع غزة، وذلك بعدما سُمح للنازحين في الجنوب بالعودة إلى منازلهم في الشمال.

ليست آسية بمفردها التي تعاني اضطرابات نفسية بعد الحرب؛ بل آلاف الغزيين يعانون نفس الظروف، خاصّة بعدما فقدوا الأهل والبيوت والمأوى، لكن لا إحصاءات دقيقة حتى الآن عن حجم الأزمة النفسية التي خلّفها القصف الإسرائيلي على غزة.

وبحسب تقديرات مختصين نفسيين، فإن سكان غزة يواجهون أزمة نفسية حادة، إذ يعاني كثيرون من اكتئاب مزمن واضطراب ما بعد الصدمة، إضافة إلى القلق والتوتر المستمر. وأظهر تقرير للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بعد الحرب أن 70% من الغزيين فوق 18 عامًا يعانون من الاكتئاب.

ولا تتوقف هذه المشاكل النفسية على تأثيراتها العاطفية فقط، إذ حذرت منظمة الصحة العالمية من انعكاسات الحرب على الصحة النفسية، مشيرة إلى أن القلق والاكتئاب هما الأكثر شيوعًا، وتظهر الأعراض الجسدية المصاحبة لهما على شكل آلام في الظهر والمعدة وأرق مزمن.

المختصة النفسية حنين الخصر التقت بالعديد من الحالات التي عانت جراء الحرب ظروفًا نفسية قاسية، تقول في حديثٍ لـ "آخر قصة": "إنّ أكثر الاضطرابات شيوعًا التي لاحظتها عند المصابين هي نوبات الهلع والاكتئاب، إضافة إلى اضطراب ما بعد الصدمة".

أما طرق التعامل العلاجية مع هذه الحالات على اختلاف مشكلاتها، فهي تختلف كما أكدت الخصر بحسب كل حالة وطريقة التعامل معها، فمنهم من يحتاج العلاج السردي أو المعرفي السلوكي وآخرون يحتاجون لتدخل دوائي سريع لتفادي المشاكل العميقة التي قد تحدث بمرور الأيام.

تنقل حسن علي (21 عامًا) بين أروقة المشافي لأشهر طويلة بعد أن فقد عائلته بالكامل، بما في ذلك والده وأخيه الوحيد، في الحرب الإسرائيلية الضارية. لم يكن الألم مقتصرًا على جراح الجسد، بل كان للنفس نصيبها الأكبر، إذ أصبحت الليالي كوابيس لا تنتهي، والساعة التي ينامها إجبارًا تحولت إلى عذاب متجدد.

"كنت أستيقظ مفزوعًا بعد كل كابوس، حتى أصبحت أخشى النوم تمامًا. لجأت إلى الأطباء طلبًا للمهدئات، لكنني أدمنت عليها، فلم أعد قادرًا على الاستغناء عنها"، يقول حسن.

يتذكر تلك الليلة التي غيرت مسار حياته وقال لـمراسلة "آخر قصة"، "رأيت طيف والدي يمد يده نحوي، يطلب مني العودة للحياة وتحقيق حلم العائلة بأن أصبح طبيبًا". صباح اليوم التالي، قرر حسن أن يطلب المساعدة الطبية. 

"ما زالت نوبات البكاء تلاحقني، لكنها أصبحت أقل حدّة، والأهم أنني استطعت التحرر من إدمان المهدئات التي كادت تسرق مني حياتي"، يقول حسن، وهو يحاول اليوم إعادة بناء أحلامه رغم كل ما خلفته الحرب من ندوب.

تعقيبًا على حالة حسن، أكدت المختصة النفسية "الخصر" على ضرورة اللجوء لطلب الدعم النفسي إذا شعر الإنسان بوجود أعراض غير معهودة عليه، وهذا ما فعله حسن. 

وأوضحت الخصر أنّ بعض الأعراض لا يمكن التجاوز عنها كالكوابيس الليلية التي قد تكون مؤشرًا لاضطراب ما بعد الصدمة وهو جملة من ردود الأفعال تظهر في مجموعة من الأعراض النفسية والجسدية مثل الخوف الشديد وخيالات وصور ذهنية ومشاكل في النوم وكوابيس وأفكار تلقائية اقتحامية وذكريات مؤلمة وجميعها ذات صلّة بالحدث الصدمي.

رامي إسماعيل (*)، شاب ثلاثيني، كانت قبل الحرب لديه حياة يصفها بالمتعبة، لكنها كان راض بها، يحاول توفير أدنى الاحتياجات الأساسية له ولعائلته، ويحلم بغدٍ أفضل، لكن الحرب الإسرائيلية قلّبت حياته رأسًا على عقب، وظنّ أنّ الحرب بمجرد أن تغلق أبوابها سيخف الجحيم الذي يعيش به، لكن لم يحصل.

منذ انتهاء الحرب، يعاني رامي من أرقٍ دائم، بالكاد ينام ساعتين بعد الفجر. يتذكر كل ليلة أشلاء الشهداء التي تعثر بها أثناء هروبه من قصف منزل مجاور. "مرّ عام على الحادثة، لكنها لا تفارقني"، يقول بصوتٍ متهدج ويدين مرتجفتين.

يراوده التفكير في الموت كثيرًا، فقد استشهد صديقه المقرّب في أكتوبر المنصرم، ومن يومها زادت حالة رامي النفسية سوءًا، يتساءل هل تألم قبل موته! هل فكر في وهو يعلم أنني أخاف الفقد! هل شعر بتهتك جسده قبل الموت! يحاول أن يوقف عجلة عقله عن التفكير لكنه محض عبث، فيمنعه عقله من النوم.

وكآلافٍ من الغزيين أيضًا يعاني رامي حالة فقدان التركيز والنسيان بعد الحرب، وفقدان الشغف بالحياة أصبحت جزءًا من يومياته، لكنه مجبر على الاستمرار في عمله داخل محل صغير لبيع المواد الغذائية، يحاول أن يتجاوز الألم، لكنه لا يملك رفاهية التوقف، إذ يستيقظ مرهقًا كل يوم، يودّ اعتزال العالم وعدم الاختلاط بالناس، والتوقف عن تأديّة مهامه الجديدة التي أفرزتها الحرب ما بين تعبئة مياه للغسيل ومياه الشرب.

قبل الحرب، كان رامي يخطط للخطوبة والزواج وبناء أسرة، أما الآن فقد أجّل الفكرة لحين التعافي من اكتئابه وتحسن أوضاعه الماديّة قليلًا، كما قال.

يفسر علم النفس الاكتئاب بأنّه اضطراب مزاجي يؤثر على الحياة اليومية، ويُسبِب شعور دائم بالحزن وعدم اهتمام لأيّ تفاصيل في الحياة، ويُواجه مريضه صعوبة في القيام بالأنشطة اليومية، واضطرابات في النوم، وفقدان شهية أو العكس، وإرهاق دائم وعدم قدرة على تنفيذ المهام الصغيرة اليومية، وإذا لوحظ في أسرع وقت فإنّ المريض يُعالج منه بيُسر، وذلك إما بالتدخل المعرفي السلوكي أو بالأدوية.

وينصح خبراء علم النفس والاجتماع المرضى الذين يُعانون أعراض غير طبيعية خلال الحرب وبعدها، بالاندماج مع الأصدقاء، وممارسة تدريبات التأمل الواعي والتنفس، إضافة لممارسة الرياضة بانتظام، وتناول الطعام الصحي، واللجوء لمختص نفسي يساعده على تجاوز المرحلة.

كما يبرز في هذه الأوقات الدور الكبير للأشخاص المُحيطين بالمصابين بالاضطرابات النفسية، في دعمهم وتحسن حالتهم، إذ يحتاجون إلى مَن يستمع إليهم ويشجعهم على الكلام عن مشاعرهم وعدم الحكم على حالتهم النفسية التي يمرون بها والاهتمام بهم والبقاء على تواصل مستمر معهم سواء بالاتصالات أو الزيارات.

يحارب الغزيون على كل الجبهات بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية، ما بين مواجهة تداعياتها النفسية، وبين استمرارهم في مهامهم اليومية التي لا خيار لهم سوى تأديتها. وسط هذا كله، تظل الصحة النفسية للغزيين في خطر متزايد، وتحتاج إلى تدخل عاجل من المختصين للبدء في رحلة التعافي.

(*) أسماء مستعارة

 

موضوعات ذات صلّة:

النسيان كآلية دفاعية: تأثير الحرب على ذاكرة السكان

كيف تبني مرونة نفسية في بيئة مليئة بالتحدّيات؟

مستقبل الناجي الوحيد: ألم نفسي طويل الأمد 

الموسيقى في غزة: ملاذ  نفسي لمواجهة الحرب

أزمات نفسية معقدة في غزة جراء الحرب

ما الصدمة النفسية التي تسببها الحرب؟ وهل من علاج لها؟