بالأمس القريب، كان بيت الغصين الأثري الواقع وسط مدينة غزة، أشبه بخربة قبابها وجدرانها آيلة إلى السقوط. أمّا اليوم، فقد أصبح مركزاً ثقافياً. يعود تاريخ هذا البيت إلى عام 1800 ميلادي، ويُعرف حالياً باسم العائلة التي تمتلكه (عائلة الغصين).
تروي نشوى الرملاوي، وهي باحثة في علم الآثار: «كان القنصل البريطاني يقطن في البيت مع عائلته، خلال الانتداب البريطاني على فلسطين». وتلفت الرملاوي إلى أن سقف البيت والطابق العلوي كانا منهارَين، ورغم ذلك فإن هيكله كان يعكس حِرفية البناء التقليدية في القطاع، قبل أكثر من 200 عام، و«لذا كان من الواجب الحفاظ على هذا البيت الأثري».
يؤدّي زقاق طويل ممتدّ في إحدى حارات غزّة العتيقة إلى هذا البيت، الذي تبدّلت ملامحه، أخيراً، وقد مُحيت آثار التصدّع عن الجدران والقباب، وعادت إليه بهجته وروحه العريقة.
ولولا جهود مؤسّستين محليّتين هما «رواق» و«إيوان»، المتخصّصتَين في الحفاظ على التراث، وبتمويل من معهد «غوته» الألماني، لما جرت إعادة ترميم هذا البيت ذي الميزة المعمارية، ليصبح الآن بمثابة نقطة التقاء للساحة الفنية المحلّية.
يوضح محمود الشاعر، وهو منسّق ثقافي للبيت الأثري، أن عملية ترميم بيت الغصين استغرقت عاماً ونصف عام، وجرى استئجاره من العائلة المالكة لخمس سنوات، مبيّناً أنّ البيت تبلغ مساحته 450 متراً، ويتكوّن من خمس غرف، بالإضافة إلى مساحة صالون واسعة وثلاثة مخارج.
ويشير الشاعر إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد تشغيل البيت كمساحة ثقافية للمجموعات الفنية والأفراد المبدعين، لعرض منتَجاتهم الإبداعية للمجتمع، مؤكّداً أنّ الترميم شكّل علامة فارقة في إعادة الروح إلى هذا المعلم، الذي أصبح يشكّل مساحة وحاضنة للأنشطة الثقافية المختلفة في القطاع.
لم تمحُ الحروب على غزة آثار العديد من المباني التاريخية، التي يعود تاريخ بنائها إلى عصر المماليك والعثمانيين، إذ يعدّ بيت الغصين واحداً من 446 مبنى تاريخياً مُقاماً في القطاع، من بينها 417 في مدينة غزة القديمة وحدها.
وعلى رغم ما لهذه المباني من دور كبير في تعزيز الهوية، كما تقول الرملاوي، إلّا أنها مهدّدة بالانهيار أو الهدم لأسباب متعدّدة، أبرزها وجود أزمة سكن متصاعدة في غزة نتيجة الكثافة السكانية، فضلاً عن تداعي مستوى الوعي الثقافي.
بدوره، يشدّد رئيس بلدية غزة، يحيى السراج، على أهمية الحفاظ على الأماكن الأثرية ورمزيّتها، التي تعبّر عن البعد الحضاري والتاريخي للمدينة. ويكشف أن المرحلة المقبلة ستشهد تنفيذ مشاريع عدّة لترميم أماكن أثرية في المدينة، أبرزها: مشروع لترميم الجدار الواصل بين كنيسة القديس برفيريوس ومسجد كاتب ولاية، ومشروع ترميم مدرسة الكمالية الأثرية.
ويُعلِن السراج قرب الانتهاء من مشروع ترميم البنية التحتية في سوق القيسارية (سوق الذهب) وسط مدينة غزة، مؤكداً أنّ المشروع يحسّن من واقع البنية التحتية للسوق الأثري، والذي يعود تاريخ بنائه إلى العهد المملوكي.
في غضون ذلك، تتواصل الجهود المحلية من أجل ترميم مزيدٍ من المباني، حيث أُطلقت أخيراً حملة لترميم «بيت الوحيدي»، الواقع في حيّ الدرج في البلدة القديمة في مدينة غزة، كما من المقرّر أن يجري استخدامه لاحقاً كمقرٍّ لإحدى الجمعيات الثقافية، التي فقدت مبناها خلال الحرب الأخيرة على القطاع.
وقد سبق ذلك بسبعة أعوام تقريباً، ترميم «مقام الخضر» الواقع في مدينة دير البلح وسط القطاع، وهو ما تمّ بجهود محلية، وبدعم أممي، حتى أصبح «المقام» الآن بمثابة معلم ثقافي. إذ إن مبناه ينقسم إلى قسمين: الأوّل مكتبة، والثاني قبو في الأسفل، بثلاثة أمتار تقريباً، يربط بينهما دهليز ضيّق ذو أدراج، يُستخدم لجلسات الحكواتي.
ويُرجّح أن المقام أُنشئ، ابتداءً، ليكون مسجداً صغيراً للصلاة فوق دير للقدّيس هيلاريون، أو هيلاريوس، والذي يعود إلى القرن الثالث ميلادي.
على أن كلّ ما تَقدّم لا يمنع من الإشارة إلى أن هذه المحاولات لإعادة بعث الحياة في الأماكن الأثرية، وخصوصاً الآيلة إلى السقوط، تبقى محدودة، في ظلّ نقص الإمكانات الناتج من الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع، للعام الخامس عشر على التوالي.