تتجول الفتاة الفلسطينية ندى عليان بين محالّ الهواتف الخليوية علّها تجد ضالتها، حيث تنوي شراء هاتفٍ محمول بسعرٍ معقول، لكن وسط الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها سكان قطاع غزة، بات العثور على ذلك مهمة صعبة وربما مستحيلة.
لم تكن ندى (18 عاماً) تتوقع أن رحلة بحثها عن هاتف جديد ستتحول إلى صدمة حقيقية، إذ اصطدمت بأسعار تفوق ما كانت عليه قبل الحرب بأضعاف مضاعفة. ومع تزايد القيود على دخول الأجهزة الإلكترونية، أصبحت الهواتف سلعة نادرة تُباع بأسعار باهظة، مستنزفة بذلك جيوب المواطنين الذين يعانون أصلاً من تردي الأوضاع المعيشية.
عادت ندى إلى شمال غزة بعد 15 شهرًا من النزوح بين جنوب ووسط القطاع، وخلال تنقلها فقدت هاتفها. انتظرت الفتاة حصول وقف إطلاق النار كي تتمكن من شراء هاتف جديد بسعر معقول، لكنها وجدت واقعًا مدهشاً ومثيراً للغرابة حيث تحتكر الأجهزة الخلوية وتباع بأسعار فلكية.
تقول ندى في حديثها لـمراسلة "آخر قصة": "منذ أشهر أبحث عن هاتف جديد، لكن الأسعار خيالية. حتى الأجهزة المستعملة صارت باهظة، فقد عُرض عليّ هاتف قديم مقابل 300 دولار رغم أن سعره الطبيعي 150 دولارًا، فاضطررت للانتظار ولكن لم يحن بعد لوضع حد لهذه المعاناة، ومن الواضح أنه لا يوجد رادع لوقف هذا الاحتكار الذي يشهده سوق الهواتف الخلوية".
ندى، طالبة في الثانوية العامة، تحتاج الهاتف لمتابعة دراستها والتواصل مع معلميها. وعندما سمعت عن دخول هواتف عبر التهريب، خرجت للبحث عن جهاز مناسب، لكنها صُدمت بأن الأسعار تبدأ من 500 دولار، ما اضطرها إلى تأجيل الشراء والاستعانة بهاتف والدتها.
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تمنع سلطات الاحتلال الإسرائيلي إدخال الأجهزة الإلكترونية إلى قطاع غزة، بما فيها الهواتف ومستلزماتها مثل السماعات والشواحن وأجهزة الحاسوب وقطع الصيانة، مما أدى إلى أزمة كبيرة في السوق المحلي، وارتفاع الأسعار في كل المنتجات الإلكترونية وعلى رأسها الهواتف المحمولة.
توكل مهمة الرقابة على الأسعار على وزارة الاقتصاد الوطني، ووفقًا لقانون حماية المستهلك بند (بند 21 لعام 2005)، فإنّ مهمة الوزارة تتمثل في ضبط السوق ومتابعة أسعاره، إضافة لمنع حالات الاستغلال والاحتكار، ولكن جرّاء الحرب الإسرائيلية لم تعمل فرق حماية المستهلك بالشكل المطلوب، وأعاد مختصون ذلك لاستهدافهم المباشر من قبل الجيش الإسرائيلي، ولحالة العشوائية التي في الأسواق.
وبحسب ورقة بحثية أصدرها "ائتلاف أمان" بعنوان "دور وزارة الاقتصاد الوطني وحماية المستهلك في غزة خلال حرب الإبادة الجماعية"، فإنّ الوزارة شكّلت ثلاث لجان طوارئ للإشراف على استلام وتوزيع البضائع. غير أنّ الرقابة على الأسواق لم تكن فعالة بسبب العشوائية وقلّة الكوادر المختصة.
وفي هذا السياق، قال مدير الأبحاث الاقتصادية في وزارة الاقتصاد محمد بربخ، لمراسلة "آخر قصة" "إنّ حماية المستهلك لا تتدخل في تحديد سقف أسعار محدد لمحالّ الهواتف المحمولة، كونها عبارة عن سلع كمالية لذلك لا يوجد أي خطط رقابية على بيعها".
وأضاف بربخ: "أنّ أسعار سوق الهواتف المحمولة والمحالّ التجارية الاستثمارية بالعموم ستظل مرتفعة حتى حصول الإعمار الحقيقي والبناء الفعلي"، مع العلم أنه لا يوجد رابط بين إعمار القطاع وبيع السلع التجارية بما فيها الأجهزة المحمولة.
وتزداد حاجة الغزيين إلى الهواتف بشكل ملحوظ، خاصة بين الطلبة والمعلمين بعد تحول نظام التعليم إلى الإلكتروني، إضافة إلى العاملين عن بعد الذين فقدوا أماكن عملهم بسبب الدمار؛ ما جعل الهواتف وسيلة أساسية لاستمرار أعمالهم.
في ظل هذه الأزمة، أصبحت الهواتف أداة حيوية لإعادة الحياة اليومية إلى طبيعتها، لكنها باتت عبئًا ماليًا ثقيلًا على السكان، إذ تجاوزت أسعارها قدرة الكثير من الناس على الشراء.
ومع استمرار الحصار، يواجه الغزيون صعوبة في تأمين بدائل أو إصلاح أجهزتهم التالفة، مما يعيق قدرتهم على التعلم والعمل والتواصل، ويزيد من معاناتهم في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة.
خالد سعيد (27 عامًا) يعاني من أزمة ارتفاع أسعار الهواتف بشكلٍ مضاعف، إذ فقد هاتفه أثناء قصف استهدف منزله في مدينة غزة.
ويعمل الشاب كمصمم جرافيك عن بعد، يعتمد بشكل أساسي على هاتفه في إنجاز أعماله والتواصل مع العملاء. يقول لـ "آخر قصة": "بعد فقداني للهاتف، حاولت العثور على جهاز جديد يمكنني من متابعة عملي، لكنني تفاجأت بأنّ أقل سعرًا لهاتف مناسب للعمل لا يقل عن 600 دولار، وهو مبلغ لا يمكنني تحمله في ظلّ هذه الظروف".
وأضاف أنه حاول البحث عن حلول بديلة، مثل شراء هاتف مستعمل، لكن حتى هذه الأجهزة أصبحت تُباع بأسعار مُبالغًا فيها، ما جعله يعتمد مؤقتًا على هاتف قديم يملكه أحد أصدقائه. "أشعر بأنني معزول عن العمل وأواجه صعوبة في تقديم مشاريعي للعملاء"، يقول خالد، معبرًا عن قلقه من فقدان مصادر رزقه إذا استمر الوضع على هذا النحو.
المختص في الشأن الاقتصادي محمد مقداد يعزو ارتفاع الأسعار إلى سياسة الحصار التي تمنع دخول البضائع، قائلًا: "القضية ليست مجرد ارتفاع في الأسعار؛ بل هي نتيجة لمنع إدخال الأجهزة، مما يخلق أزمة في العرض والطلب، كلما قلّ المعروض، ارتفع سعره تلقائيًا".
وقد تضرر الاقتصاد المحلي بشدّة خلال الحرب، وفقًا لمقداد الذي أشار إلى أن بعض التجار يسهمون في الأزمة عبر حجب البضائع وفق المستجدات السياسية، مما يؤدي إلى استنزاف أموال المواطنين وزيادة معدلات الفقر.
من جانبه، يروي أمير طافش تجربته، إذ فقد هاتفه من نوع (أيفون 11) جرّاء قصف إسرائيلي أثناء عملية توصيله في جهاز الشحن لدى مسكن جيرانه الذي كانت تتوفر فيه طاقة بديلة، حيث استُهدف المنزل واحترق الهاتف.
بعد أشهرٍ من المعاناة، وجد أخيرًا هاتفًا متهالكاً، لكنه اضطر لشرائه بمبلغ 600 شيكل (200 دولار تقريبًا)، وهي قيمة كان يمكن انفاقها قبل الحرب، على امتلاك هاتف جديد وبمواصفات مناسبة.
ينتظر الآن طافش أن تسمح سلطات الاحتلال، بإدخال الهواتف المحمولة بكل مستلزماتها إلى القطاع بشكل طبيعي لتعود الأسعار كما كانت، كي يتمكن من شراء هاتف جديد بديلاً عن جهازه المتهالك، متسائلًا: "لماذا يستغلنا التجار بهذا الشكل ببيعهم الهواتف بأسعار غير منطقية، وأين دور الجهات المسؤولة حيال ذلك؟".
وفي ردّ على شكاوى المواطنين، أوضح فارس حجازي، صاحب محل "حجازي للهواتف المحمولة"، أنّ ارتفاع الأسعار يعود إلى نقص الأجهزة في السوق بسبب الحصار المفروض على القطاع بالتزامن مع الحرب، مما يجعل الهواتف المتاحة تُباع بأسعار مضاعفة".
وأضاف حجازي: "مؤخرًا، استطاع بعض التجار تهريب أجهزة إلى القطاع، لكنها تباع بأسعار باهظة، وها نحن نكتفي بما لدينا من أجهزة مستعملة وإكسسوارات فقط".
على الصعيد الحقوقي، يؤكد خبراء القانون الدولي أن منع الاحتلال إدخال المواد الأساسية لغزة، بما فيها الهواتف، يخالف المواثيق الدولية. المحامي علاء السكافي قال لـ "آخر قصة" إن هذا الإجراء يعد انتهاكًا لاتفاقية جنيف الرابعة التي تضمن حق السكان في تلبية احتياجاتهم، ووصول الإمدادات لهم دون عوائق.
وأوضح السكافي أن القرارات الصادرة عن الدول الموقعة على اتفاقية جنيف والتي اعتبرت "إسرائيل" دولة احتلال، تؤكد مسؤوليتها في توفير الأساسيات للسكان الذين يقبعون تحت سلطتها، ولكنها تتنصل من التزاماتها القانونية كقوة احتلال، وتمنع عمليات الإمداد التي ستسهم في تحسين الواقع المحلي المزري.
لايزال الغزيون يعانون من الغلاء المعيشي رغم وقف إطلاق النار، حيث ارتفعت أسعار الاحتياجات الأساسية والثانوية، مما فاقم من معاناة المواطنين، الذين يجدون أنفسهم محاصرين بين غلاء الأسعار وفقدان مصادر الدخل، في معركة يومية لإيجاد ما يناسب قدرتهم الشرائية وسط أزمة اقتصادية خانقة.
مواضيع ذات صلّة:
غزة: خدمة الانترنت تواجه الاحتكار والاستغلال
الفقر والانترنت يعيقان التعليم عن بعد في غزة
غزة: تردي الوضع الاقتصادي يزيد من فرص إغلاق المتاجر
شراء الهواتف غزة