وسط أجواء خانقة من الدخان المتصاعد، ووهج النار الذي لا يخمد، يواصل هاني الطنطاوي تشغيل فرنه في مخيم البريج وسط قطاع غزة، مستخدمًا زيت السيارات المحروق كوقود بديل في ظلّ أزمة الطاقة الخانقة منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة، إذ يرى الرجل في هذا الفرن ليس مجرد مصدر رزق، بل نافذة أمل في واقع يزداد قسوة يوماً بعد يوم.
لم يكن الطنطاوي، وهو أب لستة أطفال، يخطط لهذا العمل في ظروف طبيعية، لكنه وجد نفسه مضطراً لاختراع وسائل بديلة لتأمين لقمة العيش بعدما دمرت الحرب مصدر رزقه السابق في تربية الدواجن.
"منذ ثمانية أشهر بدأت مشروع الفرن، واستخدمت زيت السيارات المحروق بديلاً عن الحطب، استوحيت هذه الفكرة من عملي السابق، فالزيت يمنح حرارة أكبر وإنتاجية أسرع"، يقول الطنطاوي.
يططف الزبائن ضمن طابور ممتد أمام الفرن، فهم يبحثون عن الخبز في وقت أضحى الحصول عليه معاناة يومية.
نجلاء ناهض، وهي إحدى سكان المخيم، تعبر عن امتنانها لوجود هذا الفرن قائلة: "منذ إنشاء الفرن، أرسل أبنائي كل صباح لإحضار الخبز، فالمخبز يتميز بالسرعة والجودة مقارنة بالأفران الأخرى".
لمياء محمد، التي تؤوي نازحين في منزلها، هي الأخرى تعتمد يوميًا على الطنطاوي في تأمين 50 رغيفًا من الخبز. تقول مبتسمة: "يجهز الخبز خلال نصف ساعة فقط، وطعمه يبقى طريًا دون الحاجة لتحميصه مرة أخرى". وتضيف مازحة: "ظننت أن صاحب الفرن امرأة بسبب سرعة الإنجاز ودقة الإعداد والتفاني، لكنني تفاجأت عندما علمت أنه رجل!".
لكن وراء هذا العمل المرهق تكمن معاناة صحية لا يمكن تجاهلها، إذ يقضي الطنطاوي ما بين 10 إلى 12 ساعة يوميًا أمام الفرن، متحملًا آثار الدخان الكثيف المنبعث من الزيت المحروق، مما تسبب له في مشكلات صحية كالسعال المستمر والتهاب العيون.
"ما باليد حيلة.. الحياة كلها تعب"، يختصر الطنطاوي معاناته بهذه الكلمات التي تلخص حياة آلاف العمال في قطاع غزة الذين اضطرتهم قلّة ذات اليد إلى العمل في ظروف غير صحيّة لكسب قوت يومهم.
أما من الناحية الاقتصادية، لا تزال تكلفة التشغيل مرتفعة نتيجة منع الاحتلال إدخال الكميات اللازمة من الوقود للقطاع، إذ يبلغ سعر لتر زيت السيارات المحروق بين 50 إلى 60 شيكلًا، بينما يتراوح سعر كيلو الحطب بين 3.5 إلى 6 شواكل، وعندما يرتفع سعر الزيت أو ينقطع، يلجأ الطنطاوي إلى الحطب الذي يستهلك منه يوميًا نحو 150 كيلوغرامًا.
بدوره، يؤكد المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر أن "ارتفاع أسعار الوقود التقليدي وانقطاع التيار الكهربائي في غزة دفع الكثير إلى البحث عن بدائل غير تقليدية رغم مخاطرها الصحية والبيئية".
ويوضح أبو قمر أن "الاقتصاد الغزي يعاني من شلل شبه كامل بسبب الحرب، حيث تراجعت القوة الشرائية بشكل كبير، مما يجعل استمرار المشاريع الصغيرة مثل فرن الطنطاوي وغيره مرهونًا بالتغييرات الواقعية لظروف السوق المتأرجحة".
وبحسب تقارير محليّة، تجاوزت نسبة البطالة في غزة 80%، مع وجود مئات آلاف من العاطلين عن العمل. وتشير الإحصاءات إلى أن 96% من السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي، حيث باتت الكثير من الأسر غير قادرة على تأمين احتياجاتها الأساسية.
تعاني غزة من أزمة وقود خانقة، حيث تراجعت كميات الوقود المتاحة بسبب إغلاق المعابر والحصار المستمر؛ مما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الأساسية، حيث ارتفع سعر كيلو الغاز في السوق السوداء إلى ما يزيد عن 30 شيكلا، ما جعل تشغيل المخابز تحديًا حقيقيًا.
في الوقت نفسه، يكافح أصحاب الأفران الصغيرة التي تعمل على الحطب، سواء الفرن التقليدي المصنوع الصفيح أو ذلك المصنوع من الطين، للبقاء على قيد الحياة، في ظلّ عودة بعض المخابز التجارية للعمل.
أحد هذه الأفران هو فرن أبو إياد خلة في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وهو فرن طيني ويعمل على الحطب، ويحتاج إلى 25 كيلو حطب يوميا، لخبز كيس طحين سعة (25 كيلو) بواقع 315 رغيفًا وبيعه.
يقول أبو إياد إنه يعتمد في إنتاج الخبز على الحطب، وعندما يرتفع سعره في السوق، يستبدله بالمخلّفات البلاستيكية رغم خطورتها الصحية والبيئية.
يستمر هذا الفرن بالعمل من ساعات الصباح الباكر حتى المساء ويخبز صواني الحلويات التي يحضرها الناس كذلك، فيما يشكو الزبائن من بطء وضغط العمل.
وفي هذا الواقع الاقتصادي والمعيشي الصعب الذي يعيشه أهالي قطاع غزة لا سيما العاملين منهم في الحرف القديمة، أصبح هذا المخبز الصغير الذي بدأ كحلّ مؤقت، شاهدًا على قدرة الإنسان على التكيف حتى في أحلك الظروف. وبينما يصبح الحصول على الخبز معركة يومية في غزة، يظلّ أصحاب الأفران الصغيرة جنودًا مجهولين في حرب البقاء.
مواضيع ذات صلّة:
بالصور: عن "أنس" ورفاقه الذين حولوا البلاستيك إلى وقود
من المطابخ إلى الطرقات.. كيف أصبح زيت الطهي بديلًا للوقود في غزة؟
كيف يحصل سكان غزة على الكهرباء وسط الدمار: طاقة بديلة وحلول مبتكرة