كان يأمل محمد شملخ (52 عامًا)، مزارع في منطقة الشيخ عجلين جنوب غرب مدينة غزة، باستئناف زراعة أرضه بعد انتهاء الحرب، لكن حين بدأ بحراثتها وجد لغم غير منفجر فيها؛ ما أدى إلى توقفه عن العمل فيها.
يقول الرجل وقد بدأت عليه ملامح التوجس والقلق، " كنّا نزرع هذه الأرض بالعنب والتين، ونعتمد على ريعها لإطعام العائلة، أما اليوم مخاسرنا كبيرة جدًا، ولا نستطيع إعادة زراعتها قبل تدخل الجهات المختصة لإزالة مخلّفات المتفجرات".
ومع عدم توفر المعدات اللازمة لإزالة المخلّفات الحربية، اضطر شملخ إلى ترك أرضه، ليضاف إلى قائمة العاطلين عن العمل في غزة.
وكشف توقف الحرب على غزة عن وجود كميات من القنابل والذخائر غير المنفجرة التي تركها الجيش الإسرائيلي في عموم محافظات قطاع غزة. ومع مرور عام وأربعة أشهر على الحرب، لا تزال أزمة هذه المخلفات قائمة، وسط تساؤلات حول المسؤولية عن التخلص منها لا سيما وأن سريان التهدئة جارٍ منذ ما يزيد عن 20 يومًا.
ألقى الاحتلال الإسرائيلي (100 ألف طن) متفجرات القطاع تسببت بأضرار وخسائر مباشرة زادت على 50 مليار دولار في مختلف القطاعات، علمًا أن هذه التقديرات هي أولية ووفق ما استطاعت الفرق الميدانية حصره وتقديره، بحسب بيانٍ صدر عن المكتب الإعلامي الحكومي.
توجهت مراسلة "آخر قصة" إلى هندسة المتفجرات بوزارة الداخلية لمعرفة كيفية تعاملها مع هذه المخلّفات في ظلّ نقص المعدات والكوادر العاملة.
يقول النقيب محمد مقداد، رئيس قسم هندسة المتفجرات بمحافظة رفح ومنسق المؤسسات الدولية مع إدارة الهندسة، إنٍّ الطواقم الميدانية وجدت كميات هائلة من الذخائر غير المنفجرة في المناطق السكنية التي عاد إليها المواطنون، مشيرًا إلى أن شمال وجنوب القطاع يعانيان من نسبة تلوث عالية بهذه المخلفات.
ويؤكد مقداد أن الاحتلال استخدم أطنانًا من الذخائر، معظمها أمريكية الصنع، خلال الحرب، حيث تقدر نسبة هذه الذخائر بـ 70%، وفق تقديرات مراكز حقوقية، التي أشارت إلى أن كمية الصواريخ والقذائف المستخدمة بلغت 100 ألف طن.
أما فيما يتعلق أنواع القنابل المستخدمة، أشار مقداد إلى أن بعضها يُطلق من الطائرات الحربية مثل F-16 وM-15، ويزن الواحد منها ألفي باوند (حوالي طن واحد)، إلى جانب أوزان متوسطة تتراوح بين 500 و700 كيلو، وأوزان صغيرة تصل إلى 250 كيلو وحتى الطلقات الصغيرة جدًا.
واجهت فرق هندسة المتفجرات عقبات عدة، أبرزها نقص الإمكانات والمعدات، حيث فقدت الإدارة أكثر من 80% من معداتها بسبب القصف الإسرائيلي الذي دمر مكاتبها ومعداتها، على الرغم من ذلك، عملت الفرق في ظروف صعبة، معتمدين على الحدّ الأدنى من الأدوات المتاحة.
ويوضح مقداد أنّ اللجنة الدولية للصليب الأحمر قدمت بعض المعدات المتاحة في القطاع، لكنها غير كافية، إذ تعاني الفرق من نقص في الحفارات والكباشات، وحفار الباقر، إضافة إلى غياب أدوات الحماية الشخصية الكاملة وعربات نقل الذخائر.
حمدي مشتهى نجى وعائلته بأعجوبة من صاروخ لم ينفجر اخترق الطوابق الأربعة لمنزل العائلة التي تأوي خمس أسر شرق مدينة غزة في أكتوبر 2023، يقول: "نزل الصاروخ وتوسط الطابق الأرضي وفررنا جميعنا هاربين دون أن نتمكن من التعامل معه خلال الحرب".
يردف الرجل في حديثٍ لـ "آخر قصة"، "نزحنا في محافظات غزة ما بين شماله وجنوبه، وتشتت العائلة، أما اليوم بعدما توقف إطلاق النار عدنا للبيت لكن لا يمكننا الإقامة فيه فحتى اللحظة لم تستطيع الجهات المختصة التعامل مع الصاروخ وحذرتنا من الاقتراب منه".
وعاد الكثير من النازحين إلى أماكن سكناهم بفعل سريان التهدئة في التاسع عشر من يناير الماضي بين الأطراف المتنازعة في قطاع غزة، فيما يقيم معظم بين ركام منازلهم وقد أقام بعضهم الخيام بجانب بيوتهم المدمرة، وحاول البعض الآخر إحاة الجدران المهدمة بشوادر بلاستيكية إلى حين بدء إدخال مواد البناء وتحرك عجلة الإعمار المتوقفة.
من جهته، قال هشام مهنا، المتحدث باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في غزة، إن اللجنة وزعت بعض أدوات الحماية الشخصية والمعدات الأساسية لتحييد الذخائر، إلى جانب تثقيف فرق البلديات حول كيفية التعامل مع هذه المخلفات أثناء جمع النفايات الصلبة.
ويحذر مهنا من خطورة الأجسام المشبوهة غير المنفجرة، مشيرًا إلى أن عدم وجود حصر دقيق لحجم التلوث الناجم عن هذه الذخائر يمثل عائقًا كبيرًا، خاصة للمجتمعات النازحة والأطفال، بالإضافة إلى الطواقم الإنسانية العاملة في القطاع.
وبالعودة إلى مقداد فيقول إنّ الشرطة تتلقى يوميًا مئات البلاغات من المواطنين حول العثور على قنابل وصواريخ غير منفجرة في منازلهم أو في الطرقات، مما يعكس حجم التلوث الكبير بالمخلفات الحربية. ويوضح أن عدم توفر التقنيات الحديثة يشكل تحديًا كبيرًا لفرق هندسة المتفجرات، خاصة مع انتشار هذه الأجسام المشبوهة في العديد من المناطق السكنية.
ويشير مقداد إلى ضرورة إبلاغ الجهات المختصة فور العثور على أي جسم مشبوه، محذرًا من الاقتراب منه أو محاولة تحريكه، حتى لو تأخرت الفرق الهندسية في الوصول، نظرًا لضغط العمل الكبير على طواقمهم.
وقدّمت مراكز حقوقية تحذيرات بشأن وجود هذه المخلفات بين منازل المواطنين وتحت الركام، داعية إلى تكثيف الجهود مع الجهات المختصة لتقديم المساعدة لأجهزة الدفاع المدني وفرق هندسة المتفجرات.
في السياق ذاته، قال زاهر الوحيدي، مدير وحدة المعلومات الصحية في وزارة الصحة الفلسطينية بغزة، إن مستشفيات القطاع استقبلت شهيدين و40 إصابة ناتجة عن انفجارات مخلفات الحرب في رفح وخانيونس. وأكد أن طبيعة الإصابات بليغة، وبعضها أدى إلى بتر أطراف، حيث شملت الإصابات أطفالًا وبالغين.
وأشار الوحيدي إلى أن الجهات المختصة، وعلى رأسها طواقم الدفاع المدني ووزارة الداخلية، تبذل جهودًا كبيرة لإزالة هذه المخلفات، لكن يبقى السؤال الأبرز: هل تتحرك الجهات الدولية بشكل عاجل لمعالجة هذه المشكلة قبل أن تتسبب في المزيد من الضحايا؟ أم أننا بحاجة إلى خسائر بشرية أكبر حتى يتم التخلص من هذه المخلفات تمامًا؟
مواضيع ذات صلّة:
قنابل موقوتة في غزة.. من ينقذ السكان؟
مخلفات الحرب في غزة