لم تقتصر الآثار المدمرة للحرب الإسرائيلية التي امتدّت خمسة عشر شهرًا على قطاع غزة على المباني؛ بل امتدت تلك الآثار إلى جوانب أخرى كانت قبل الحرب محط اهتمام كبير؛ من بينها البيئة والصحة العامة، اللتين تدهورتا بشكلٍ غير مسبوق.
تظهر العديد من التقارير المحليّة أنّ الحرب تركت وراءها تلوثًا بيئيًا هائلًا، خاصة فيما يتعلق بتلوث المياه، حيث أصبحت مصادر المياه الجوفية ملوثة بمخلّفات الحرب والمواد السامة التي تسربت إليها من خلال الحفر الامتصاصية، التي انتشرت بشكل واسع في المناطق التي دمرها القصف.
كما تعاني الأرض نفسها من تدهور ملحوظ، فالمصادر الزراعية التي كانت تشكل مصدر رزق لآلاف العائلات تحوّلت إلى أرض جرداء بعد أن جرفها الاحتلال أو تعرضت لدمار ممنهج.
وبحسب شهادات العديد من المزارعين فإن محاصيلهم التي كانوا يزرعونها على مدار سنوات مضت أصبحت ذكرى بعيدة، بعدما جفت الأراضي وتعرضت للتدمير بسبب القصف أو عدم القدرة على الوصول إليها بعدما تحولت إلى مناطق عسكرية مغلقة.
لكن ما لا يمكن رؤيته في التقارير أو الدراسات المسحية للواقع المأساوي، هو القصص الإنسانية التي تروي معاناة الناس بشكل حقيقي، إذ تظلّ الأرقام مجرد أرقام، لكن الإنسان، ومعاناته، هو الذي يروي هذه القصص الحيّة التي تزداد مرارتها مع مرور الأيام.
في مخيم الشاطئ، نزحت أم سامر حمد (45 عامًا)، قسرًا مع أطفالها الستة بعد تدمير منزلها في بيت لاهيا، تقول بنبرةٍ غاضبة من تدهور الوضع الإنساني: "منذ بداية الحرب، لم نحصل على أكثر من 5 لترات من المياه يوميًا، لا نستطيع الحفاظ على مستوى مقبول من النظافة الشخصية والمنزلية، فكيف لنا أن نعيش؟".
وعانت السيدة أم سامر وأطفالها من أمراض عديدة، إضافة إلى أنّ شعورًا بالإعياء يرافقهم بشكلٍ متواصل. كما أُصيبت هي بالتهاباتٍ حادّة في الكلى بسبب افتقار جسمها إلى الماء الكافي لطرد السموم والبكتيريا.
في الإطار، تُشير دراسة صدرت عن مؤتمر بيئي عقدته شبكة المنظمات الأهلية البيئية الفلسطينية PENGON وجامعة نيوكاسل، أنّ 68% من الأراضي المزروعة بالمحاصيل الدائمة في قطاع غزة تراجعت بشكلٍ كبير في الجودة والكثافة وذلك بحلول أيلول/سبتمبر 2024.
كما رصدت الدراسة أنّ 72 مركزًا عشوائيًا للصرف الصحي في غزة باتت غير صالحة للعمل بعد خروج محطات الصرف الشرقية عن الخدمة، مما أدى إلى تدفق مياه الصرف الصحي إلى الخزان الجوفي للمياه، مهددة بذلك الصحة العامة للسكان.
أما في محافظة خانيونس، يقول إبراهيم فرحان (36 عامًا) عن معاناته في الزراعة: "لم أتمكن من الوصول إلى أرضي منذ عام، لم أزرع شيئًا، فقد جفت المحاصيل بسبب قصف الاحتلال للمناطق الزراعية."
يقول فرحان، وهو مزارع ووالد لأربعة أطفال، إنه رغم مرور أكثر من عام على النزوح، إلا أن الأرض لا تزال جافة، والمحاصيل التي كان يعتمد عليها في تغذية عائلته باتت مجرد ذكرى.
ووفقًا للمهندس علي وافي، مدير البرامج والمشاريع في الإغاثة الزراعية، قدرت الأضرار في القطاع الزراعي حوالي 80% من الأراضي الزراعية؛ لكن الواقع أكبر بكثير من ذلك، وفق قوله.
ويفيد وافي في حديثٍ لـ "آخر قصة"، "الحقيقة أنّ الأضرار في القطاع الزراعي لا يمكن حصرها بدقة بسبب عدم قدرتنا على الوصول إلى معظم الأراضي الزراعية المتضررة، خاصة تلك الواقعة بالقرب من الحدود".
وتنقسم الأضرار في القطاع الزراعي إلى ثلاثة منحنيات رئيسية، بحسب وافي الذي قال: "أولها هو التجريف المباشر، حيث جرفت قوات الاحتلال الأراضي الزراعية، بما في ذلك الآبار والمرافق الزراعية مثل الفقاسات والمزارع، وهذا النوع من التدمير شامل وكلي."
أما النوع الثاني من الأضرار، فيتمثل في فقدان المزارعين القدرة على الوصول إلى أراضيهم. "منذ أكثر من عام وأربعة أشهر، أصبحت العديد من الأراضي بورًا جفت من دون ري أو رعاية. وبالتالي، فقدت الأراضي المحاصيل التي كانت مزروعة فيها."
ويتابع وافي: "النوع الثالث من الأضرار فهو نزوح المواطنين إلى الأراضي الزراعية، هذا النزوح أدى إلى قطع الأشجار واستخدامها للتدفئة بسبب نقص المواد الأساسية."
ويشير وافي إلى أن ما يقارب 90% من البنية التحتية الزراعية في القطاع فقدت فعاليتها، بما في ذلك الآبار، المخازن، والفقاسات التي كانت تديرها مزارع الدواجن والنحل.
وعن الأضرار البيئية طويلة الأمد، يوضح وافي أن تلوث مصادر المياه والعناصر الثقيلة في التربة يمثل خطرًا كبيرًا، "هذه الأضرار تتطلب وقتًا طويلاً للتعافي، ولا يمكننا معرفة مدى التلوث إلا بعد إجراء تحاليل دقيقة للتربة، فالعناصر الثقيلة الموجودة قد تسبب بتسمم للمحاصيل الزراعية؛ ما يعني انتقال هذه السموم إلى الإنسان."
كما يوجد أضرارًا أخرى مثل تجريف التربة، إذ إن الطبقة الحية من التربة التي تعتبر مهمة لنمو النبات تمت إزالتها بشكل كامل، ووفقًا لوافي فإنّ هذا يعني أن الأرض أصبحت غير صالحة للزراعة، وعملية إعادة تأهيلها تحتاج إلى من سنة إلى ثلاث سنوات.
ورغم هذه الأضرار الكبيرة، يشير وافي إلى أن هناك أضرارًا أقل حدّة يمكن التعامل معها، مثل آثار الجفاف، والتي يمكن معالجتها بشكل أسرع. ووفقًا لآخر تعداد زراعي، بلغ عدد المزارعين في قطاع غزة حوالي 220 ألف مزارع.
فيما تسعى الإغاثة الزراعية للعثور على الناجي من آبار المياه الصالحة للعمل أو المناطق الزراعية التي يمكن تأهيلها لإعادة الزراعة: "نبحث عن حلول ناجعة، سواء من خلال ترميم الآبار أو تأهيل الأراضي الزراعية المتضررة".
المواطن أبو ماهر جبر، في الخمسينيات من عمره، نزح من مخيم الشابورة في رفح إلى مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة، وأقام داخل خيمة منتصف أيار الماضي، وما زال يقطن فيها بسبب دمار بيته كليًا، يقول الرجل، "المنطقة التي نزحت فيها غير مهيئة من ناحية الصرف الصحي فاضطررنا لحفر حفرة تمتص المياه لاستعمالات دورة المياه والغسيل وخلافه".
وانتشرت الحفر الامتصاصية بشكلٍ هائل في أوساط خيام النازحين لا سيما جنوب قطاع غزة، وفي حديثه عن الواقع البيئي في قطاع غزة، يوضح الخبير البيئي نزار الوحيدي، أنّ الوضع البيئي قد تدهور بشكلٍ دراماتيكي بعد العدوان الإسرائيلي الأخير.
وقال الوحيدي، "من أبرز المشاكل التي نشأت هي الحفر الامتصاصية التي انتشرت بشكل واسع، ففي كل خيمة توجد حفر امتصاصية للصرف الصحي، والتي تتسرب بشكل مباشر إلى الخزان الجوفي للمياه، وهو ما يُشكِّل خطرًا كبيرًا على صحة الإنسان وبيئة القطاع بشكلٍ عام."
وأضاف الوحيدي في حديثٍ لـ "آخر قصة": "نحن نتحدث عن تلوث غير مسبوق، خاصة بعدما قُطِعت حوالي 2.5 مليون شجرة في القطاع بسبب الحرب، وهذا التدمير طال حتى المقابر، حيث تم قطع الأشجار التي كانت تحافظ على البيئة وتحد من التعرية."
ومع استمرار التدهور البيئي، أشار الوحيدي إلى أن المواد المستخدمة في الحرب، بما في ذلك القنابل التقليدية واليورانيوم المنضب وغير المنضب والقنابل النووية التكتيكية، قد تركت آثارًا صحية طويلة الأمد، لقوله: "هذه المواد السامة لها أضرار صحية كبيرة للغاية، وقد تظهر نتائجها في المستقبل القريب على صحة السكان."
أما فيما يتعلق بالصحة العامة، فإن نتائج فحص عينات الصرف الصحي التي أجرّتها مؤسسات دولية تشير إلى تفشي أمراض خطيرة في القطاع، مثل الملاريا والكوليرا وشلل الأطفال، إضافة إلى التهاب الكبد الوبائي، نتيجة تلوث المياه والصرف الصحي.
وفي إشارة إلى أزمة المياه، يختتم الوحيدي حديثه بصدمته من الأرقام: "المواطن في غزة لا يحصل سوى على 5 لترات من المياه يوميًا، وهو ما يعكس كارثة إنسانية تزداد تعقيدًا كل يوم."
وتتابع المراكز الحقوقية منذ بداية الحرب الاسرائيلية الوضع الإنساني للنازحين والتي تفاقمت؛ نتيجة نزوحهم وحشرهم في مساحة لا تتجاوز 11% من مساحة القطاع، مفتقرة للخدمات الأساسية.
في السياق، قال باسم أبو جري باحث في وحدة الدراسات في مركز الميزان لحقوق الانسان في غزة، إنّ "التكدس السكاني، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية، قد أدى إلى مشاكل بيئية وصحية خطيرة، من بين هذه المشاكل، تفشي الأمراض في صفوف النازحين نتيجة تلوث المياه وانتشار المياه العادمة في الشوارع."
وأضاف الباحث أبو جري: "أما في المناطق الجنوبية من القطاع، فإنّ نقص الخدمات الأساسية أدى إلى استخدام الحفر الامتصاصية في مخيمات النازحين. هذه الحفر تتسرب منها المياه العادمة إلى الخزان الجوفي، ما يشكل خطرًا كبيرًا على الصحة العامة."
ما زال قطاع غزة يعاني من تدّاعيات الحرب بشكل مضاعف، فبينما تتصاعد الأضرار البيئية والصحية، يبقى الأمل في النهوض بحياة الناس في غزة ضعيفًا بسبب تدمير النظام البيئي والزراعي والمائي.
وفي ظلّ هذه الظروف، يبقى السؤال الأهم: هل سيستطيع الناس هنا أن يواصلوا الحياة؟ أم أن الكارثة الإنسانية ستظل تلاحقهم لأجيال قادمة؟
موضوعات ذات صلّة:
كم تحتاج سلة غزة الزراعية وقتاً للتعافي؟
سحق الفراولة: ضربة قاسمة للزراعة والاقتصاد
سكان غزة يشقون طريقهم عبر الصرف الصحي
بيئة غزة في طليعة تحدّيات ما بعد الحرب
الضرر البيئي في غزة نتيجة الحرب كبير، وفترة التعافي قد تكون مؤلمة وطويلة