أطفال غزة العاملون: أيادي صغيرة تنحت في الصخر

أطفال غزة العاملون: أيادي صغيرة تنحت في الصخر

من قلب مخيمات النازحين جنوب قطاع غزة يتناهى صوت الطفل عمار محمد (10 أعوام)؛ مناديًا على حلوى يحملها بين يديه للبيع: "حلب يا حبايب.. عوامة يا حبايب"، يبحر بين أزقة الخيام مرتدٍ قبعة زرقاء تحميه حرارة الشمس نهارًا في منطقةٍ لا ظلال فيها بعد دمار عمرانها.

منذ الشهور الأولى لاندلاع الحرب على قطاع غزة، وهذا البائع الصغير يحمل صينيته على رأسه، ويمارس عمله يوميا عند العاشرة صباحًا حتى تنفد حلواه، فيعود لوالدته التي تنتظره على باب الخيمة، ليقرّ عينها بغلّة اليوم.

غير أنَّ محطات النزوح قد غيّرت مكان عمل الطفل محمد من رفح جنوب القطاع إلى مواصي خانيونس ثم المحافظة الوسطى، يرافقه في طريقه اليومي عشرات الأطفال العاملين، منهم مَن يجلس على بسطة صغيرة خاصة بالحلوى، والآخر يقابله على بسطة لبيع المعلبات. وهؤلاء الأطفال ليسوا حالاتٍ فردية؛ بل هم جزء من بين آلاف الأطفال الفلسطينيين الذي دفعتهم الحرب لشقٍّ طريقهم للعمل رغم صغر سنهم.

وتنامت ظاهرة عمالة الأطفال في قطاع غزة، إلى مستويات غير مسبوقة؛ رغم أنّها غير جديدة، إذ تُشير الإحصاءات -قبل الحرب- إلى أنّ نسبة العمالة بلغت بين 413 ألف طفل في غزة بين (سن 10 و17 عامًا) حينها 0.9%.

مع تصاعد الحرب وتفاقم الأزمات الاقتصادية، بات الأطفال مجبرين على العمل في ظروفٍ قاسية لتأمين احتياجات أسرهم. ولهذا يكن العمل خيارًا طوعيًا، بل كان ضرورة ملّحة لتوفير مصدر دخل لأسرهم، خاصة بعدما فقد الكثير منهم المعيل بسبب الاستشهاد أو الإصابة أو الاعتقال، وبعضهم يشارك والده وأشقائه في العمل جنبًا إلى جنب لمواجهة تقلّبات السوق.

من جهة قانونية، فإن الطفل هو كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة من العمر، وفي هذا الإطار تنصّ اتفاقية حقوق الطفل وتحديدًا المادة الأولى على حماية الأطفال بتوفير التعليم والغذاء والرعاية الصحية، كما ينصّ قانون حقوق الإنسان وبالأخص اتفاقية حقوق الطفل (1989) وبروتوكولها الاختياري على حماية الأطفال من آثار النزاعات المسلحة.  

بدوره، أكّد المحامي علاء السكافي لـ "آخر قصة" أنَّ المادة (14) من قانون الطفل الفلسطيني، و(93) من قانون العمل الفلسطيني تمنع تشغيل الأطفال تحت سن الخامسة عشرة.

ووفقًا للسكافي لا توجد نصوص وصريحة تمنع عمالة الأطفال في القانون الدولي ولا سيما اتفاقية حقوق الطفل لعام 1990، لكنّها حددت معايير أساسية لدمجهم في سوق العمل وأعطت الطفل فوق سن 15 عامًا الحق في العمل؛ لكن بشرط ألا تكون الأعمال الخطرة تُهدد سلامتهم النفسية والجسدية، كما اشترطت أن يكون ضمن ساعات عمل قصيرة، بالإضافة لضرورة توفير كشف طبي للأطفال كل ستة أشهر، وهذا ما أكدّته المادة (4) من قانون الطفل الفلسطيني.

وقال المحامي: "إنّ الاحتلال لم يكترث لحقوق الأطفال في غزة، ولم يلتزم بالمواثيق الدولية التي تحث على حمايتهم؛ بل دفعهم للعمل لتوفير احتياجاتهم بعدما قتل المعيل الأساسي بالأسرة أو أفقده مصدر دخله".

ودعا المؤسسات ذات الصلّة التي تُعنى بالأطفال بتحمل مسؤولياتها وتوفير مصادر دخل للأسر الغزية التي دفعت بأطفالها إلى سوق العمل مجبرة، والاهتمام بتعزيز الصحة النفسية للأطفال الذي أنهكتهم الحرب وتحمل مسؤوليات تفوق قدرتهم على الاحتمال.

حاولت مراسلة "آخر قصة" التعرّف على الجهد الوزاري المبذول تجاه احتضان الأطفال العاملين في قطاع غزة --خلال وبعد الحرب-؛ لكنّ اعتذر كلٍ من المتحدثة باسم وزارة التنمية الاجتماعية عزيزة الكحلوت، وممثل وزارة التربية والتعليم مجدي برهوم، وحالوا الأمر إلى ضبابية المشهد في قطاع غزة حاليًا.

سارة جمعة (9 أعوام) فقدت من وزنها ما يزيد عن 5 كيلوات، إذ تصرّ على مقاطعة الطعام طوال فترة عملها من الثامنة صباحًا وحتى الرابعة عصرًا، تفرك عيناها صباحًا وتأخذ طاولتها الخشبية رفقة شقيقها لتضعها في الشوارع الفرعية لمدينة دير البلح الواقعة وسط مدينة غزة.

وعلى الرغم من عشوائية المشهد أمامها إلا أنّ سارة تحرص على تنسيق البسطة المكونة من بعض المعلبات الغذائية وحاجيات الأطفال من حلوى وغيرها. 

تقول الصغيرة لـ "آخر قصة": لقد اعتدت على العمل ولا أتصور أن تنتهي الحرب ولا أعمل، فالمال هو الشيء الذي ساندنا في الحرب، كان يجب عليَّ أن أعمل لأوفر مصروفي أنا وعائلتي، أمي تخاف عليَّ كثيرًا حين أخرج وأنا أحمل طاولتي الصغيرة التي أضع الحاجيات عليها ولكني أطمئنها أنني قوية، وإذا لم أعمل لا نستطيع توفير احتياجاتنا اليومية".

بفعل الحرب افترقت سارة عن والدها الذي كان يعيل الأسرة، تعقّب والدتها: "غياب زوجي سبَّبَ أزمة مالية لنا، ولولا بعض من الأموال التي كنت اقتطعها من مصروف البيت لما استطعنا تدبر أمورنا وحدنا في النزوح، لكن بعد نفاد الأموال اضطررت لإرسال طفلتي الأكبر للعمل لنعيش".

وأمام ما تعانيه الطفلة سارة وغيرها من الأطفال العاملين، يؤكد المختص الاجتماعي عرفات حلس على ضرورة عدم تحميل الطفل مسؤولية أكبر من قدرته على التحمل، والتأكيد دائمًا للطفل أنَّ عمله في الحرب هو مؤقت، وسيزول مستقبلًا، وأضاف أنّ الطفل مكانه هو المدرسة والملاعب والأماكن المخصصة للأطفال وليس سوق العمل.

وقال حلس: "إنّ للحرب تأثيرات نفسية على الأطفال، سواء على بنيتهم الجسدية أو النفسية. لذلك يجب على العائلة أن تحرص على الحفاظ على نفسية الأطفال من تأثير الحرب والعمل المجهد تحت الغارات العنيفة".

بحسب دراسة أجراها مركز التدريب المجتمعي وإدارة الأزمات الفلسطيني، بدعم من "تحالف أطفال للحرب"، فإن 80% من المعيلين عاطلين عن العمل، وحوالي 24% من الأسر يديرها أطفال لا تتجاوز أعمارهم 16 عامًا.

كما أشارت الدراسة إلى أنّ 96% من الأطفال في قطاع غزة يشعرون بأن الموت وشيك، فيما 87% من الأطفال يظهرون خوفًا شديدًا، بينما يعاني 79% منهم من الكوابيس.

وأكد البحث الذي تضمن مقابلات مع (504) أسرة، بأن 92% من أطفال غزة لا يتقبلون الواقع، و77% يتجنبون الحديث عن الأحداث الصادمة، فيما يظهر 73% منهم سلوك عدواني، و49% من أطفال قالوا إنهم يتمنون الموت بسبب الحرب.

وعن سؤال وجهناه للمختص الاجتماعي "حلس" حول كيفية محاربة الصفات السيئة التي اكتسبها الأطفال من الاندماج بسوق العمل، أجاب: "يجب مجابهة السلوكيات غير المرغوبة وعدم السماح للأطفال باتخاذ العنف كوسيلة للتعامل، خصوصًا مع أقرانه في سوق العمل، ومن المهم أخذ موقفًا من الطفل إذا تعدى تعليمات الأهل بالعقاب البسيط حتى لا يصبح السلوك المنفر عادة لديه".

ولا ينكر أحد أن لعمالة الأطفال سلبيات كثيرة على المدى البعيد، ويؤكد ذلك المختص الاجتماعي، ملمحاً إلى التأثير السلبي على الناحية الصحية والنفسية بالنسبة للطفل، حيث أن العمل يستهلك قوته، إضافة إلى أن "نموه يصبح غير طبيعي إذا اتجه لأعمال العتالة التي تحتاج لجهد مرهق. كما يصبح الطفل مستنزفًا لا يستطيع المواصلة حينما يكبر".

وحذر حلس من الآثار الصادمة لعمالة الأطفال عليهم، مشيرا إلى أن العمل تحت الضغط النفسي يولد مشكلات كبيرة مثل العدوانية واضطرابات الخوف وغيرها من الأمراض. ودعا الأسر إلى احتواء أطفالهم، وكذلك المؤسسات المختصة لتقديم الدعم النفسي للأطفال وتنظيم فعاليات ترفيهية تعليمية لهم.

يتقاطع ما يُشير إليه المختص الاجتماعي حول تدّاعيات عمل الأطفال على سلوكهم النفسي مع ما أشارت إليه تقارير صدرت عن الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال، تقول إنه يجب معالجة اضطرابات ما بعد الصدمة عند أطفال غزة، عن طريق التدخل المبكر بإنشاء برامج توعوية تعالج الصدمات لديهم، إضافة لتوفير الدعم النفسي للعائلات بعقد جلسات تعرفهم بكيفية التعامل مع تقلبات أطفالهم المزاجية.

في الإطار، تؤكد تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) إلى أن الوضع المعيشي كان قبل الحرب وتحديدًا عند الأطفال صعبًا للغاية، إذ اعتبرت قطاع غزة أخطر مكان على الأطفال في العالم ووضعه تحول من كارثيًا إلى شبه منهار".

وبحسب اليونيسف كان نحو 500 ألف طفل بحاجة لدعم نفسي واجتماعي. أما بعد الحرب ازدادت الأوضاع سوءا بسبب العدوان الإسرائيلي على غزة، وما يقارب مليون طفل بحاجة لدعم طارئ.

ومنذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ ظن الأطفال أنهم سيودعون سوق العمل ويعودون لمدارسهم على الفور، لكنهم اصطدموا بالواقع الصعب الذي لم يحل أيًا من مشاكلهم بل فاقمها بعدما عادوا لبيوتهم فوجودها كومة من حجارة، فلم يتغير عليهم سوى مكان النزوح، لكن العمل باق معهم.

 

مواضيع ذات صلّة:

أطفال تحت النار : لا للعمالة نعم للتعليم

أطفال الحرب يكافحون ضد الجوع

عمالة الأطفال بغزة.. وجه آخر لـ "صراع البقاء"

الفقر يدفع إلى عمالة الأطفال في غزة