في واحدٍ من أيام وقف إطلاق النار بغزة، استيقظت صباحاً وقررتُ البحث عن ورشة يمكنني من خلالها إصلاح راوتر الانترنت المتعطل، متخيلاً أن الإنترنت قد يعيد بعض الإحساس بالاتصال في هذا الانفصال المستمر عن العالم.
ارتديت جاكيتاً وانتعلت حذاءً صلباً يمكنه احتمال السير في الطرقات الوعرة التي حرثتها الآليات العسكرية قبل انسحابها (المؤقت أو الدائم لا أحد يعلم ماذا تخبئه الأيام).
المهم، قطعت ما يزيد عن نصف كيلومتر سيراً على الأقدام في انتظار مرور سيارة أجرة يسمح مزاج سائقها نقلي إلى وجهتي. ولسوء حظي بدأ المطر بالتساقط، اتجهت مسرعاً لاستظل تحت مظلة آيلة للسقوط. لم أعر الأمر اهتمام، فكما يقولون "ياما دقت على الرأس طبول".
خمس وأربعون دقيقة قضيتها منتظراً حصول أحد الاحتمالين، إما أن يتوقف المطر وأكمل مشواري الذي بدأت، وأما أن تقلني سيارة أجرة، وللأسف توقفت أمامي حافلة (فلوكس واجن)،
تعود لموديل السبعينات، تُسمع عنها الحكايات دائمًا: "الخير في العتاقي". ربما الخير في تلك الأيام لا يزال حبيسًا فيها. صعدتُ بصعوبة وسط مشهدٍ عبثي، طفلٌ صغير يعيق المرور، وأمّه تتذرع بقلة ذات اليد لتتركه وحيدًا دون مقعد، كأنه جزء من الفوضى المحيطة.
في هذه الحافلة، كانت غزة كلها مسرحًا صغيرًا للتناقضات التي نعيشها. الحديث عن الجوع والمرض كأنهما جزء من حوار عابر، المطر الذي يذرف عبر ثقوب سقف الحافلة فوق رأسي، و"الكومسري" الذي يجمع الأجرة بصوتٍ جاف كأنه القاضي الذي لا يقبل تأخيرًا. دفعت بصمت وأنا أستعيد داخلي جملة رجل جاورني في المقعد حين قال لي: "قول للزمان أرجع يا زمان". لا شيء سيعود، لا شيء.
ووسط تكاثف عادم الحافلة داخل الصندوق، والاختناق الذي يصيب الركاب، يفتح السائق حواراً بارداً سمجاً، كأنما ألقى حجراً في بئرٍ: "الي صار شيء برفع الرس"، في إشارة إلى رضاه عن واقع غزة بعد هذا الدمار الذي لم يسبقه دمار.
وليت السائق لم يفعلها وألقى حجره، حيث أثار ذلك شجون أناس، وأثار حفيظة أخرين. نشبت أحاديث جانبية سُمع منها عبارات تتكرر كثيراً عن "الانتصار". تلك الجدلية التي ينقسم حولها الكثير، حيث يصر البعض على ترويجه عبر مكبرات الصوت وخطابات الزهو في وسائل الإعلام. لكن، إذا نظرت في أعين الناس هنا داخل الفلوكس واجن، ستجد قصصاً أخرى؛ أعين تحمل الهزائم اليومية، الهزائم التي لا صوت لها سوى أنين القلوب المنكسرة، وآهات أمهات يبحثن عن أبنائهن بين الأنقاض، وسرقة الأمل بعد أن عاد النازحون إلى شمال غزة فوجده تلال ركام بلا أي من مقاومات العيش.
مررت بنظري داخل الحافلة على وجوه نساء ورجال وأطفال عابسة، بعضهم يحمل أكياساً بلاستيكية بها القليل من الطعام، والبعض الآخر يحمل أثقالاً معنوية أثقل من الجبال بسبب الفقد والخسائر المادية التي تكبدوها بفقدان تحويشة العمر والمسكن وذكريات وأشياء أخرى كثيرة طيلة 15 شهراً.
كنت استمع إلى الشكاوى، وأسأل نفسي: أين هو الانتصار الذي يتحدثون عنه؟ نحن مثقلون بالهزائم الداخلية؛ لم نعد نبحث عن الرايات المرفوعة بقدر ما نبحث عن استراحة من هذا الدمار النفسي والجسدي.
تحدث السيدة المنتقبة جارتها قائلةً: "شو بدي بالانتصار إذا كل أولادي انقتلوا؟، شو بدي في شعاراتهم وأنا عايشة بخيمة؟". كانت كلماتها كأنها حجارة تُلقى في بركة ماء راكدة، تُثير في كل واحدٍ منا سؤال: هل هذا هو الثمن الذي يجب دفعه حتى نشعر بالزهو والرضا عما حل بنا؟
ليس أكثر من هذا ألماً، فالألم الحقيقي اليوم هو هذه الحالة التي تهزم الروح وتفرق بين الناس. ليس القصف وحده الذي يقتل، بل انعدام العدالة في توزيع المساعدات وبيعها في الأسواق كما يقول شاب يجلس في المقعد الأمامي، وتهاوي أخلاق التعاضد المجتمعي التي لطالما تغنّى بها الفلسطينيون، ونكران الآخر وتجاهله، والتخوين، والتشكيك، ورفض القبول بالانتقاد واجراء المراجعات، كلها أشياء تقتل.
ليس علينا أن نفكر كثيراً، يكفي أن نستمع بواقعية إلى تلك السيدة التي بلغت قبلتها أمام المستشفى، والتي كانت تتحدث قبل النزول من الحافلة عن بيعها للمساعدة التي حصلت عليها لزيارة والدتها التي بتر ساقها نتيجة حادثة قصف.
تُشير قصتها إلى فجوة كبيرة بين من يملك ومن لا يملك، فبدلاً من أن يعتمد الناس على مصادر دخلهم، أصبحت المساعدات طوق نجاتهم من الفقر، وأصبح انتظار الحصول عليها باباً للمهانة؛ ناهيك عن طوابير ممتدة للحصول على الماء والخبز، والبحث عن وقود، ودوامة البحث عن مكان إقامة بين الأنقاض في ظل انعدام الخدمات الطارئة للتعامل مع واقع النازحين.
يتحدث الجميع هنا عن مآسٍ لا يُعلن عنها عبر شاشات التلفاز، عن أشخاص يأخذون نصيبهم ونصيب الآخرين، وعن جيش عفيف نفس من الأرامل وكبار السن وذوي الإعاقة وأخرين من المهمشين لا أحد يدق بابهم، ليجدوا أكياس المونة قد فرغت، تماماً مثل جيوبهم.
بينما نزلت من "الفلوكس واجن"، سرحت ذهنيا وأنا أُحدق في حفر الطريق الممتلئة بمياه الأمطار العادمة وأكوام الركام التي تشكل تضاريس الحياة اليومية، شعرت أنني أُحدق في صورة غزة الكبيرة الآن؛ طريق بلا نهاية واضحة، محفوفة بالألم، وكلما حاولت المضي قُدماً، عادت الحفر والحواجز لتذكرك أنك عالق في دائرة من الهزائم الصغيرة والكبيرة.
لذلك أوجه رسالةً إلى كل أولئك الذين يتحدثون بفخر ونشوة وسط الألم، عليكم فقط أن تحدقوا في عيون الناس جيداً، لتدركوا حقيقة أن السكان هنا لم يعودوا يبحثون عن شعاراتٍ كبيرة؛ يبحثون عن استراحة من الركام النفسي والجسدي. فكم من "نصرٍ" كُتب على جدران منازل تحولت إلى رماد، وكم من "فخرٍ" طُمر تحت الأنقاض؟
علينا أن نتذكر في كل دقيقة، أن هناك عشرات الآلاف من الأحلام قد قتلت في مهدها، وأن هناك جيش من الأيتام، وعشرات آلاف الطلبة بدون تعليم لمدة عامين، ومئات الأرامل يبكين أزواجهنّ، ومئات الآلاف من النازحين يجرّون أقدامهم المثقلة بالخيبات فوق الركام. وخسائر أخرى كثيرة مثقلة بالأرقام لا تحصى، لأنها لا ترتبط بمال فقط، بل بذكريات ومشاعر وأشياء أعظم مما تتخيلون.
سيارة الأجرة غزة