العائدون إلى شمال غزة: مستقبل غامض بين الأنقاض

العائدون إلى شمال غزة: مستقبل غامض بين الأنقاض

يستعد في هذه الفترة، نحو مليوني إنسان وهو ما يُشكِّل 85% من سكان شمال القطاع نزحوا إلى جنوبه جرّاء الحرب الإسرائيلية نحو 469 يومًا، إلى العودة إلى الشمال مرة أخرى في ظروف قاهرة.

ووسط احتفالاتٍ محليّة فردية صغيرة أقامتها العائلات النازحة في الشوارع على استحياء، إثر إعلان الدوحة في مؤتمر صحفي التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، مطلع التاسع عشر من يناير 2025، بعدما عانت ويلات تهجيرٍ قسري طال معظم سكان القطاع منذ 15 شهراً.

ولكن أمام النقص الهائل في الخدمات الأساسية، لا سيما في ضوء ما أظهرته دراسة منظمة الصحة العالمية في ديسمبر 2024، فأنّ 60% من المياه الصالحة للشرب في غزة دُمِرت أو أصبحت غير صالحة للاستخدام بسبب تدمير شبكات المياه.

وأمام الانهيار التام للبنية التحتية والمسح الكامل للأحياء السكنية وتدمير الطرق، والنقص الحادّ في المنظومة الصحيّة وشبكات الاتصال والمرافق الدراسية، يقفز سؤال: هل هذه العودة حقيقية بما تحمله من مضمون فعلي وليس عاطفي، وسط هذا الدمار الهائل وسحق غالبية الحياة السكنية والعودة بالقطاع إلى عصور الظلام؟

تشير تقاريرٍ أممية إلى أنّ القصف الإسرائيلي طال أجزاء واسعة من قطاع غزة لا سيما في شماله، ألحقت نيرانه الضرر بكل حارة، وكل بيت، وكل شارع، حتى الأشجار لم تَسلم، تشوّه وجه المدينة الجميل وتغيرت أنماط الحياة الحضرية إلى البدائية مع انقطاع شبكات الكهرباء والمياه والوقود وتفاقم أزمات الصرف الصحي.

إضافة إلى ذلك، فقدت عشرات الآلاف من العائلات الضحايا، الكثير منهم ما زالوا مفقودين، وآخرين تحت الأنقاض لم تتمكن أجهزة الدفاع المدني من انتشالهم بعد، ومرافق عامة عديدة تحوّلت إلى مقابر جماعية لأعدادٍ هائلة من الشهداء بعدما حُوصر السكان في أحياء سكنية محدودة ولم يستطيعوا الانتقال إلى دفن جثامين شهدائهم.

على الرغم من مأساوية المشهد وكارثية الوضع، ما زال السكان الذين نزحوا إلى الجنوب يخططون للعودة، يغنون رغم جراحهم الكبيرة وخسائرهم الفادحة، ويرقصون على وقع الأهازيج والأغاني الفلسطينية: "راجع ع بلادي، ع الأرض الخضرة راجع ع بلادي"، رغم أن الواقع يقول أنه لم يعد هناك حتى شيء أخضر، لاسيما بعد تدمير السلة الذراعية بشكل شبه كامل.

تقول أم ياسر فلفل (54 عامًا)، إحدى النازحات من حي الزيتون شرق مدينة غزة إلى مواصي خانيونس جنوب القطاع لأكثر من عام، بينما كانت تأمل العودة طوال الوقت: "بيتي مدمر تدميرًا كليًّا، لا أعلم أين سأذهب وماذا سيكون مأوايّ هل صف في مدرسة؟ هل خيمة؟ هل سأبقى بلا مأوى يوم أو اثنين أو أكثر، لا تصور لديّ، كل ما أعرفه أنني أنتظر العودة على أحرّ من الجمر".

تقطن هذه السيدة من نوفمبر 2023 في خيام النزوح التي تذوّقت فيها عذابات الحياة غير الآدمية، خلال شتائين  قارسين وصيفٍ حارق، تختلط في داخلها مشاعر الأمل والألم إزاء العودة، فمن ناحية ستعود محملة بقطع الشوادر التي صنعت منها خيمتها في النزوح لتعيد نصبها مرة أخرى بجوار ركام بيتها، ومن ناحية أخرى ترفض البقاء بعيدًا عن مكان سكنها الأصلي.

أم ياسر ليست وحدها التي شعرت بهذا الألم؛ بل الكثير من سكان شمال قطاع غزة، الذين تهجروا أيضًا، يواجهون المشاعر نفسها. فرغم إعلان وقف إطلاق النار، فإن التحدي الأكبر ليس في عودة الناس إلى ديارهم؛ بل في كيفية العودة إلى حياة طبيعية قدر الإمكان وسط عالمٍ من الركام.

وعلى منصات التواصل الاجتماعي أعرب الكثير من النازحين عن مشاعر الفرح التي تسيطر على وجدانهم مع سريان التهدئة، وانتظار عودتهم إلى محافظتي غزة والشمال. ومع ذلك فإن الكثير منهم أفشى تخوفه من مجهولٍ قادم، فيما كان قاطني غزة يبرزون صوراً صادمة لهول ما حل بالمدينة التي مثلت مركز القطاع لوقت طويل من الزمن.

ووسط ما تناقلته مشاهد بثتها وسائل إعلام عن الواقع المزري في شمال قطاع غزة، فقط أظهرت مسح شبه كامل لبلدة بيت حانون، وبيت لاهيا، ومخيم جباليا، تدميرا هائلاً طال الأحياء الشرقية والجنوبية لمدينة غزة وبخاصة حي الشجاعية والزيتون وتل الهوى وغيرها، وهو ما ينذر بفاجعة سكان هذه الأحياء حين العودة إليها قادمين من الجنوب. وعن حجم التحدّيات الهائلة في التأقلم والتعايش مع الواقع الجديد.

جمال عطية (51 عامًا) كان يقطن مدينة غزة ويعمل في قطاع التعليم منذ أكثر من ثمانية وعشرين عامًا، وضع كل ما ادّخره لسنوات عملٍ طويلة في بناء بيت مستقل لأسرته المكونة من ثمانية أفراد، وتأمين مستقبل أبنائه، حتى جاءت الحرب فحوّلت بيته إلى كومة ركام.

بدت على ملامح وجه الرجل متاعب النزوح والتشرّد لأكثر من عام في جنوب قطاع غزة، وعلى الرغم من سعادته بنبأ العودة، إلا أنّه لم يستطع إخفاء حقيقة شعوره بقوله، "بعد كل هذا الكدّ لسنوات كنت أتخيل أنني أتممت مهمتي وقدمت لأبنائي ما يضمن لهم حياة كريمة، اليوم أتحضر للعودة إلى خراب، أخشى مواجهة الواقع هناك والبدء من الصفر مرة أخرى".

في هذا الإطار، يقول المختص في المجال النفسي مصطفى كلاب إنّ العائلات النازحة لديها تخوف حقيقيًا من حجم المعاناة الذي ينتظرها حال عودتها الأسبوع المقبل إلى شمال قطاع غزة.

وأشار كلاب إلى أن عودة النازحين إلى شمال غزة تتطلب أكثر من مجرد إعلان وقف إطلاق النار، إذ إن عودة العائلات إلى ديارها ليست مهمة سهلة في ظلّ الظروف الحالية.

وتشكل الحاجة إلى مراكز إيواء مهيئة أمام العائدين حاجة ماسة من وجهة كُلاب، الذي يرى أن عملية إعادة الإعمار قد تستغرق وقتًا طويلاً، وبالتالي يصعب تلبية احتياجات النازحين في الفترة الأولى من عودتهم، مما قد يزيد من الصعوبات النفسية والاجتماعية على السكان.

وأفاد المختص النفسي إلى أنّ عودة الناس إلى مناطق سكناهم المدمرة ستؤثر بشكل كبير على الحالة النفسية لهم، وقال: "الناس لا يعودون فقط إلى ديارهم، بل يعيدون بناء حياتهم النفسية والاجتماعية من جديد، الصدمة الناتجة عن الدمار يمكن أن تكون شديدة، خاصة أن جزءًا كبيرًا منهم فقدوا أفرادًا من عائلاتهم أو ممتلكاتهم".

وأردف كلاب: "الضغط النفسي على هؤلاء الأشخاص يتطلب تدخلًا نفسيًا مستمرًا، ويجب أن يكون هناك دعم اجتماعي ونفسي متكامل للتعامل مع آثار الحرب على السكان لا سيما الأطفال والنساء منهم."

رغم كل هذه التحدّيات، لا يزال الأمل قائمًا بين الكثير من العائلات في العودة إلى الشمال؛ إلا أن الواقع القاسي يبقى حجر العثرة أمام هذا الأمل. فحتى مع وجود مساعدات من قبل المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة والصليب الأحمر، فإنّ إعادة الإعمار تتطلب وقتًا طويلاً وموارد أكبر؛ مما يُشير إلى أنّ عودة الحياة إلى طبيعتها في شمال غزة ستكون عملية شاقة.

بينما تكافح العائلات للعودة إلى الشمال بعد تهجير قسري استمر لأكثر من عام، تبقى الأسئلة بلا إجابات: هل ستتمكن غزة من التعافي؟ وهل ستتمكن هذه العائلات من إعادة بناء حياتها بعد هذا الدمار الهائل؟ يبدو أن الإجابة عن هذه الأسئلة تعتمد على العديد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما يجعل الأمل مشروطًا بتحقيق العدالة والسلام في هذه المنطقة المدمرة.

أمام هذه المعطيات، تبقى العودة إلى شمال غزة معركة ليست فقط على الأرض بل على النفس والروح، وتبقى عيون العائلات التي فقدت منازلها معلقة على أمل أن يأتي يعلن فيه عن مرحلة جديدة من الإعمار، وأن تستطيع هذه العائلات بناء حياة جديدة على أنقاض ما دُمر.

 

مواضيع ذات صلّة:

- واقع الشباب: مستقبل مدفون بين الركام

- النازحون الشباب: أحلام مستحيلة نتيجة الصراع

- بالأرقام دمار هائل في غزة وهذه أبرز الإحصائيات