ذوو الإعاقة يجبرون على العمل لمواجهة الجوع

ذوو الإعاقة يجبرون على العمل لمواجهة الجوع

يحاول المواطن الفلسطيني محمد شبات تفادي أذى الحطب المشتعل والذي يزيد عينه اليسرى التي فقد الرؤية فيها، نتيجة الحرب على قطاع غزة، ألماً وأذى. 

يستخدم شبات يديه؛ ليقي نفسه سحابة الدخان التي تطوّقه داخل خيمة صغيرة يتوسطها فرن، افتتحها حديثًا في منطقة دير البلح وسط قطاع غزة. يهدف من وراء إنشائه تحسين ظروفه المعيشية التي تأثرت بشكل كبير بعد فقدانه البصر في عينه.

في نوفمبر 2023، خلال الشهر الثاني من الحرب، وجد شبات نفسه غير قادر على تأمين لقمة العيش لعائلته المكونة من سبعة أفراد، إذ مرّت أيامٌ دون طعام أو ماء، فقرر البحث عن فرصة عمل تتناسب مع حالته الصحية التي فرضتها الإصابة.

شبات هو واحد من آلاف الأشخاص الذين أصيبوا بالإعاقة جراء الحرب. وفقًا لإحصاءات المراكز الحقوقية، تسببت الحرب في إصابة 20,000 شخص، منهم 5,000 تعرضوا لإعاقةٍ دائمة، بينما يحتاج 15,000 آخرين إلى تأهيل ورعاية طبية طويلة المدى.

نقص حاد

ويجد الأشخاص من ذوي الإعاقة أنفسهم أمام تحدٍ كبير، حيث تجبر الظروف الكثير منهم على العمل من أجل سدّ الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية وبخاصة أرباب الأسر، الذين يواجهون نقصاً حاداً في الطعام والغذاء والأغطية داخل مخيمات النزوح.  

"شبات"، كان يعمل في بيع الخضراوات بأجرة يومية لا تتعدى 20 شيكلاً، وهو مبلغ لا يكفي لسدّ احتياجات أسرته؛ لذلك قرر افتتاح فرن في المخيم الذي نزح إليه قادمًا من بلدة بيت حانون شمال القطاع، على أمل تحسين وضعه الاقتصادي. 

يقول الرجل في حديثٍ لـ "آخر قصة": "لم يكن إنشاء الفرن سهلاً، فكنت أواجه صعوبة في تأمين المال؛ لكنني تلقيت مساعدة من أحد الأقارب بمبلغ 200 شيكل، وهو ما ساعدني على البدء بالمشروع، وعندما أحتاج إلى الراحة لعدم مقدرتي المواصلة ساعاتٍ طويلة أمام الفرن، تجلس زوجتي مكاني وتستمر في العمل".

على الرغم من ذلك، لم تكن الطريق ممهدة أمام شبات، فقد ضربت أزمة نقص الطحين أسواق جنوب القطاع، منذ ثلاثة أشهر وما زالت مستمرة بوتيرةٍ أقل حدّة بعد جهود المؤسسات الإغاثية الدولية لإنقاذ السكان من خطر مجاعة كانت وشيكة. 

وعلى إثر ذلك ارتفع سعر كيس الطحين بشكل كبير، إذ وصل إلى نحو 1500 شيكل (ما يعادل 450 دولارًا)، ليعود بعدها ويستقر السعر على (400-450 شيكلًا) ما يعادل (150 دولارًا). يقول شبات: "تسببت هذه الأزمة في خسارة كبيرة لي، العجين الذي يأتيني قليل في المقابل يحتاج الفرن إلى حوالي 17 كيلو من الحطب يوميًا بتكلفة (50-60 شيكلاً)؛ ما يزيد العبء المالي، خاصة وأن إيرادات الفرن لا تتجاوز 30 شيكلاً في اليوم".

أمام هذه الظروف يضطر الرجل إلى إغلاق الفرن لأيامٍ متتالية، فالنازحين لا يوجد لديهم طحين إلا بكمياتٍ محدودة ونادرة، وهو ما تسبب بضعف قدرته على توفير أدنى احتياجات أسرته لا سيما الطعام تحديدًا، ووجد صعوبة بالغة في شراء العلاج الخاص به.

قبل الحرب، كان يعمل شبات في بيع الخضروات على عربة كارو شمال قطاع غزة، وعلى الرغم من قلّة ذات اليد ومحدودية الدخل؛ إلا أنّه يستذكر تلك الأيام بحنينٍ بالغ، فانخفاض الأسعار ساعده في حيّنها على تدبير أمور بيته المادية، يقول: "كنت أسكن في بيتٍ بالإيجار وأخرج لعملي من الساعة الخامسة فجرًا ولا أعود حتى الواحدة بعد الظهر؛ لكن كان الحال جيدًا ومستورًا". 

عيش كريم

قلبت الحرب حياة الشاب محمد شبات كباقي سكان قطاع غزة الذين يرزحون تحت وطأة الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ 15 شهرًا، فخرج من بيته نازحًا إلى خيمة صغيرة جنوب القطاع، يفتقر فيها لمقومات العيش الكريم، ويعاني نقصًا شديدًا في الغذاء والأغطية والملابس، فضلاً عن غياب الخدمات الطبيّة المناسبة لحالته.

قصة شبات ليست الوحيدة، هناك مئات الأشخاص من ذوي الإعاقة يعانون واقعا مأساوياً نتيجة إعاقاتهم الطارئة، وبخاصة أولئك الذين فقدوا وظائفهم ومصادر دخلهم بسبب الحرب، وهو ما يؤكده عضو الأمانة العامة للاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، سلامة أبو زعيتر، إذ قدّر أن الحرب تسببت بتعطل نصف مليون عامل عن العمل في عموم فلسطين، منهم (200 ألف) عاطل عن العمل في قطاع غزة بوجهٍ خاص.

وتصاعدت أعداد الأشخاص من ذوي الإعاقة بشكلٍ مخيف مع استمرار الحرب الإسرائيلية للشهر الرابع من العام الثاني على قطاع غزة، فيما تعرضت نسبة كبيرة من العمال إلى إصابات أردتهم بإعاقاتٍ جزئية أو دائمة، وفقًا لما أشار إليه زعيتر، في حديثه لـ "آخر قصة"، وقال: "يحتاج هؤلاء إلى إعادة تأهيلهم نفسيًا واجتماعيًا؛ للتمكن من إعادة دمجهم في سوق العمل، فيما توجد ضرورة لإتاحة برنامج دعم متكامل للعمل يتضمن جانبًا إغاثيًا، وآخر نفسي واجتماعي".

وتعمل المواطنة الفلسطينية نهلة عبد الرحمن (*) في أواخر عقدها الثالث، على إعداد أطباق حلوى "العوامة" لأبنائها الذين بدورهم يقومون ببيعها في أوساط النازحين وبين أزقة الخيام المتهالكة.  

نهلة أم لستة أطفال، أكبرهم يتلقى يتحضر لاجتياز الثانوية العامة، وهي زوجة رجل يعمل في قطاع الصيد البحري، وكانت قد أصيبت إصابة خطرة أدت إلى بتر ساقها في أكتوبر 2023.

بعد تعطل زوجها عن العمل بفعل النزوح القسري من شمال قطاع غزة والاتجاه جنوباً، وعلى إثر احتياجات أسرتها الماسة للطعام والغذاء وتوفير الأدوية اللازمة لحالتها الصحية المتردية، وبخاصة أنها مصابة أيضًا بارتفاع ضغط الدم، وجدت نفسها مضطرة لطهو الحلوى وتحضيرها تمهيداً لبيعها. 

تقول السيدة التي أصبحت أسيرة الكرسي المتحرك إلى الأبد، "في الواقع أنا أعاني الأمرين في سبيل إعداد الطعام لأطفالي، ويزيد عمل الحلوى حالتي سوءا؛ لكن ليس لدي خيار أخر، فزوجي متعطل عن العمل، والمساعدات الإغاثية بالكاد تغطي احتياجاتنا وهي شحيحة وباتت نادرة".

وتضيف نهلة التي تبدّلت ملامحها على مدار أكثر من عام من الإصابة وحوّلتها من سيدة نشيطة روحها تفيض حيويةً إلى امرأة كئيبة وحزينة طيلة الوقت، "لقد فرضت علينا الحرب ظروفا قاهرة لا يستطيع أحد احتمالها، وأشعر أنّي لا طاقة لي على فعل شيء غير أنّ إطعام أطفالي هو أكبر همي، وهو ما يدفعني لمواصلة الكدّ والتحامل على الصحة".

وتشكو السيدة مما أسمته "انعدام المساواة" في توزيع المساعدات الإنسانية على النازحين والمرضى وذوي الإعاقة، وقالت: "من غير المعقول أن يجبر الأشخاص من ذوي الإعاقة على العمل من أجل إشباع جوعهم، هذا ليس عدلاً، لماذا لا يُؤمَن قوتنا وقوت أطفالنا؟". 

الانتهاكات والقانون

يواجه الأشخاص من ذوي الإعاقة انتهاكاتٍ جسيمة في ظلّ استمرار تأثيرات وقائع الحرب عليهم، بينما يحمي القانون الدولي الإنساني الأشخاص ذوي الإعاقة في حالات النزاعات المسلحة، وبرز ذلك عبر اتفاقية جنيف الرابعة التي تخص حماية المدنيين أثناء الحروب، بالإضافة إلى البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف. 

كما يكفل القانون الدولي لحقوق الإنسان حقوق هذه الفئة، إذ نصّت المادة (11) من اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة على أن الدول الأعضاء، وفقًا لالتزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني، ملزمة باتخاذ "جميع التدابير اللازمة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة في حالات الخطر، بما في ذلك حالات النزاع المسلح".

وفي هذا السياق، أشار المحامي سمير المناعمة، محامي في مركز الميزان لحقوق الإنسان، إلى أنّ المؤسسات الحقوقية، بما في ذلك مركز الميزان، أولت اهتمامًا خاصًا بالأشخاص ذوي الإعاقة من خلال رصد وتوثيق الانتهاكات التي يتعرضون لها. 

وأوضح المناعمة أن هذه الفئة تواجه تحدّياتٍ كبيرة، مثل انتهاك حقهم في الحياة، وعدم توفير الإمكانات والتدابير اللازمة التي تراعي خصوصياتهم ووضعهم النفسي والاجتماعي. 

وأشار إلى أنّهم يواجهون انتهاكات تتناقض مع أحكام القانون الدولي الإنساني، خاصة اتفاقية جنيف الرابعة التي تحميهم قانونيًا، إضافة إلى اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة؛ لذلك، دعا المناعمة إلى ضرورة تقديم الحماية والرعاية لهم في ظلّ استمرارية الحرب الإسرائيلية.

المسؤولية القانونية

ويبدو واضحاً أن المسؤولية القائمة على عاتق وزارة التنمية الاجتماعية تجاه هؤلاء الأشخاص، لم تأخذ مسارها الطبيعي في ظلّ الحرب. حيث يقول مصدر في الوزارة فضل عدم الكشف عن اسمه: "في الوقت الراهن وفي ظلّ الاحتياجات المتزايدة التي تعانيها القطاعات المختلفة في غزة نتيجة الحرب، تبدو الوزارة عاجزة عن سدّ احتياجات جميع الفئات، لاسيما في ظلّ محدودية الموارد".

وأوضح المصدر، أنّ وزارته وبتعاون مشترك مع المنظمات المحلية والدولية، تحاول العمل على سدّ احتياجات المواطنين عمومًا بما في ذلك الأشخاص من ذوي الإعاقة، لكن ذلك يصطدم بالكثير من التحدّيات، أبرزها تعدد أشكال الاحتياجات، بين تأهيل وأدوات مساعدة وتوفير الحفاظات، ناهيك عن المساعدات الغذائية ومتطلبات العناية بالنظافة والصحة العامة، بالتزامن مع محدودية في الموارد، وبخاصة في ظلّ ما يسمح الاحتلال الإسرائيلي بإدخاله عبر المعابر. 

وأشار إلى أن لدى وزارته خطة لأجل التعامل مع مختلف الشرائح المجتمعية التي تعاني من ويلات الحرب للشهر الـ15 على التوالي، غير أنّ تلك الخطة بحاجة إلى وقف إطلاق النار حتى يصبح تنفيذها أكثر نجاعاً وتحقق الفائدة المرجوة لخدمة جميع الشرائح بما فيها الأشخاص من ذوي الإعاقة، الذين يواجهون تحدّيات أعقد وأكبر من غيرهم.

 

(*) أسماء مستعارة