اقتصاد الحرب: أبرز تحولات سلوك الأفراد والأسواق

اقتصاد الحرب: أبرز تحولات سلوك الأفراد والأسواق

أحدثت الحرب على قطاع غزة تغيراً نوعيًا وملموسًا وكبيراً في السلوك والتوجهات الاقتصادية لدى المواطنين. ولم يكن هذا التغيير نتيجة رضى أو قناعة الأفراد، ولكن تماشيًا مع الظروف وتسييراً لمتطلبات الحياة.

ومن المتوقع أن تبقى بعض السلوكيات والعادات مرتبطة بفترة ما بعد الحرب، والتي منها تغير نمط الاستهلاك والإنفاق وتراجع الادخار وتغير العمل وغيرها. كما أدت الحرب إلى خلق مشاكل جمة في الأسواق وتغيرات كبيرة في آليات السوق، مما أسفر عن الكثير من التشوهات فيها، بالإضافة إلى ذلك، ساهمت الحرب أيضا في خفض بعض المؤشرات الاقتصادية مثل الادخار والاستهلاك. ومما نستنتجه من الحرب أنها خلقت ضغطاً متأرجحاً على أسعار السلع بين الصعود والهبوط، وذلك بسبب حالة عدم اليقين وعدم الاستقرار وغياب الجهة الرقابية الناظمة.

أمام هذا الواقع يشخص ويحلل الباحث الاقتصادي رامي الزايغ، ما يعرف باقتصاد الحرب، وكذلك السلوك الاقتصادي للأفراد وما نتج عنه من تغيرات في الإنفاق والاستهلاك وأنماطه وعاداته، وكذلك الادخار والأذواق والتحولات في العمل، مروراً بدراسة السلوك الاقتصادي للأسواق وأهم التغيرات فيه، من حيث آلية عمل السوق ومواعيد وأماكن وأشكال السوق.

بدايةً ما هي التحولات التي طرأت على سلوك الأفراد نتيجة الحرب؟

يتأثر السلوك الاقتصادي للفرد في حالة الحرب بمجموعة من العوامل النفسية، مثل الخوف من انقطاع السلع من الأسواق، الأمر الذي يدفع الأفراد إلى الإسراع لشراء السلع وتخزينها تحسبا لإطالة أمد الحرب وانقطاعها من السوق.

يسعى الفرد أيضا إلى تعظيم المنفعة من خلال شراء أكبر كمية من السلع بأقل سعر ممكن، وهو ما يتوافق مع النظرية الاقتصادية التي تفرض أن الأفراد يتخذون قراراتهم بشكل عقلاني ورشيد، وأنهم على وعي تام بحاجاتهم وبكيفية إشباعها بأقل التكاليف الممكنة، وأن الأفراد يميلون دائماً إلى تخزين أكبر قدر ممكن من السلع.

إضافة إلى ذلك، ثمة عوامل اقتصادية تؤدي إلى انخفاض الانفاق الاستهلاكي وتراجع حجم الادخار الفردي، مثل انخفاض الدخل لدى البعض وانعدامه لدى أخرين.

بالتالي ألقي هذا العدوان بظلاله على القرارات الاقتصادية للمواطن الغزي من خلال تغير المزاج والتوجه الاستهلاكي، وقدرته على الإنفاق المالي مما أدى إلى انخفاض القوة الشرائية.

ما هي صور التحول الناتج عن هذه الحرب في السلوك الفردي؟

أولاً: تغير نمط الاستهلاك

 نظراً لاختفاء العديد من السلع في الأسواق، تحول اعتماد المواطنين من اللحوم الطازجة إلى اللحوم المعلبة، والمطبوخات الطازجة مثل البازيلاء والفاصولياء إلى الأنواع المعلبة منها، وكذلك البقوليات بشكل عام. ونظراً للارتفاع الكبير في أسعار الدقيق وندرته في الأسواق، أصبح المواطن يعتمد على الأرز والمعكرونة كوجبة أساسية وربما وحيدة لدى بعض الأسر يومياً.

ومع انعدام وجود الخضروات في الأسواق، أصبح الاعتماد شبه كلي على الخضروات المجففة مثل البصل والثوم، والخضروات المعلبة مثل معجون الصلصة.

ثانياً: تغير أولويات الإنفاق:

نظراً لظروف الحرب والنزوح، وندرة السلع في الأسواق، وتوقف الحركة الاقتصادية، أدى ذلك كله إلى عزوف المواطنين عن السلع غير الأساسية والإنفاق غير الضروري، وتوجههم نحو الإنفاق على السلع الأساسية والضرورية اللازمة للحياة.

ثالثاً: انخفاض الانفاق الاستهلاكي:

دفعت الحرب والأحداث المصاحبة لها نحو انخفاض الإنفاق الاستهلاكي للأفراد نتيجة لعوامل عديدة، منها حالة عدم اليقين والخوف والقلق، وانعدام مصادر الدخل للعديد من الأسر. وانخفاض القوة الشرائية للعملية نتيجة لأسباب متعددة، ولكن من المهم الإشارة إلى أن القرارات أو التوجهات الاستهلاكية الحالية هي نتاج الظروف القاسية التي يفرضها العدوان، مثل ندرة السلع في الأسواق. ووفقا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، انخفض الإنفاق الاستهلاكي النهائي للأسر المعيشية في قطاع غزة في الربع الأول من عام 2024 إلى 109مليون دولار أمريكي، مقارنة بـ735 مليون دولار أمريكي في الربع المناظر من عام 2023، مما يعني انخفاضاً بنسبة 85%. وبحسب الجهاز المركزي أيضا فقد انخفض الاستهلاك في قطاع غزة بنسبة 80% خلال الربع الرابع من عام 2023 مقارنة بالربع المناظر له من عام 2022.   

 رابعاً: تغير العادات الاستهلاكية:

تغير شكل الاستهلاك لدى الأفراد من خلال شراء الحاجيات والمستلزمات بشكل يومي، بدلاً من الشراء الشهري كما كان يتبعه الموظفون مثلاً، وأسبوعياً للعاملين الذين يتلقون أجورهم بشكل أسبوعي. ويعود ذلك إلى الارتفاع الكبير في الأسعار، وندرة المعروض من السلع، بالإضافة إلى عدم الاستقرار السكني نتيجة كثرة النزوح.

ومن صور تغير عادات الشراء هو قيام المواطن بشراء بعض المستلزمات من الخضروات "بالحبة" أو "الأوقية"، حيث أصبح البائع عند سؤاله عن سعر سلعةٍ ما، مثل الفلفل الأخضر، يجيب بسعر "الأوقية" بدلاً من سعر الكيلو كما كان معروفا لدى مواطني غزة، وذلك بسبب ارتفاع الأسعار.

خامساً: تراجع الادخار الفردي:

من الطبيعي، عندما تتعطل الحياة وتتوقف العجلة الاقتصادية، ويصبح آلاف المواطنين بدون فرص عمل أو مصدر دخل كما هو حاصل خلال العدوان، أن يتوقف الأفراد عن الادخار. ونتيجة لذلك، يضطرون تلقائياً إلى تغطية احتياجاتهم ومستلزماتهم من مدخراتهم الفردية.

سادساً: التحول في العمل:

أصبح المتجول في الأسواق يجد أن الغالبية العظمى من البائعين هم من أصحاب الوظائف الحكومية والخاصة. وذلك يعود بشكل أساسي إلى التأخر في تلقي الرواتب أو انقطاعها لدى بعض العاملين، مثل عمال المياومة في القطاع الخاص. لذا يبحث الكثيرون عن مصدر دخل لأسرهم. فتجد على سبيل المثال، أصحاب الشهادات العليا، والمدرسين، والمهندسين، والمحاسبين، والفنيين، والعاملين. والكثير من فئات المجتمع الأخرى، يبيعون ويشترون في السوق كوسيلة لتحصيل الرزق وسد احتياجات أسرهم.

سابعاً: تغير التوجهات الاستثمارية:

أدى توقف العجلة الاقتصادية إلى توجه المواطنين ممن يمتلكون السيولة النقدية إلى العمل في التجارة، وخاصة في تجارة السلع الأساسية، والغير أساسية بشكل عام. يأتي ذلك بحثاً عن مصدر دخل أو كاستثمار للمال في ظل عدم القدرة على القيام بأعمال استثمارية أخرى. ووفقا لسلطة النقد الفلسطينية، فقد تراجع الإنفاق الاستثماري في فلسطين خلال الربع الأول من عام 2024 بنحو 28% حيث يستحوذ قطاع غزة على حوالي 92% من هذا التراجع.

ثامناً: تحييد الجودة والأذواق:

أدى انقطاع السلع في الأسواق إلى إهمال المواطن الغزي للجودة والذوق في شراء السلع، حيث أصبح مكتفياً بسد الحاجة فقط، فأصبح مضطراً لشراء ما هو متوفر في الأسواق من سلع غذائية، بغض النظر عن جودتها أو ذوقها. على سبيل المثال، نتيجة لانقطاع الدقيق الأبيض، لجأ المواطن إلى شراء القمح وطحنه، وعندما انقطع القمح، اتجه إلى شراء الشعير والذرة الجافة كبديل.

ما المقصود بالتحولات في سلوك الأسواق وما هو شكل هذا التحول؟

أدى الحصار الشامل والمطبق الذي فرضته إسرائيل بداية حربها على القطاع، ومنع إدخال المساعدات والمعونات الإغاثية كافة، وتدمير البنية التحتية، وقطع إمدادات الكهرباء، وقصف المراكز التجارية وحرقها مثل كيرفور ومترو مول في مدينة غزة، وعمليات الاقتحام البري للمدن والأحياء، وطلبات الإخلاء والنزوح إما إلى جنوب القطاع أو إلى أماكن أخرى داخل شمال القطاع، كل ذلك أسفر عن تحول في طبيعية وسلوك الأسواق وقد ظهر ذلك من خلال:

أولاً آلية السوق:

تحدد آلية السوق بشكلها الطبيعي والاعتيادية أسعار السلع، حيث تعمل الأسواق وفقاً لمستويات الطلب والعروض، والمنافسة بين البائعين. وتتسم بشدة وسرعة التقلب في الكميات والأسعار، وذلك من خلال التقاء قوى الطلب والعرض، وبالتالي يتحدد السعر التوازني لأي سلعة. لقد خلقت ظروف الحرب توشهات جمة في آليات السوق، ويعود ذلك إلى اختفاء العرض، واستفحال الاحتكار، وظهور طبقات غير تجارية أو غير رسمية تعرف بأصحاب البسطات. كما وقد غاب المنظم أو الرقابة الحكومية، مما أدى إلى عدم قدرة المستهلك على معرفة الأسعار أو الكميات المتاحة، وبالتالي، انتقل الاقتصاد من حالة الاقتصاد المنظم إلى الاقتصاد غير المنظم. ويمكن القول أيضاً أن حالة الأسواق في قطاع غزة عموماً تعكس خصائص "السوق الغير رسمية".

ثانيا: أماكن التسوق:

ترتكز مراكز التسوق الجديدة في الأماكن التي يتواجد أن ينزح إلى المواطنون نتيجة للاقتحامات والعمليات البرية التي ينقذها جيش الاحتلال الإسرائيلي. على سبيل المثال، برزت أسواق جديدة تعرف باسم "أسواق الحرب" أو "أسواق النزوح"، مثل أسواق العباس والمغربي والصناعة، والتي ظهرت أثناء نزوح سكان المناطق الشرقية والشمالية في مدينة غزة إلى مناطق غرب المدينة. وقد أصبحت هذه الأسواق مركزية ويعتمد عليها الغزيون بشكل كبير. ومع عودة السكان لمنازلهم فقد أغلق العديد من الأسواق، مثل سوقي الصناعة والعباس، بينما قل الإقبال على السوق المغربي بشكل كبير بعد عودة النازحين إلى بيوتهم عند انتهاء ما يسمى بالعمليات العسكرية بالمنطقة.

بالإضافة إلى ذلك، هناك من الأسواق ما تركز بجانب مراكز الإيواء التي ينزح إليها السكان، مثل سوق يافا بجوار مدرسة يافا، وسوق الفلاح بجانب مدرسة الفلاح، والعديد من أماكن النزوح المختلفة.

ثالثاً: شكل الأسواق:

أغلقت المولات والسوبرماركت والمحال التجارية أبوابها، إما نتيجة القصف والتدمير والحرب، أو نتيجة لنزوح مالكيها. حيث أصبحت الأسواق عبارة عن بسطات وعرائش صغيرة مفروشة في الشوارع والمفترقات الرئيسية في المدينة بين الركام وفوق الأنقاض.

رابعاً: مواعيد التسوق:

أصبحت مواعيد التسوق تقريبا من الساعة التاسعة صباحاً حتى آذان المغرب، أي حوالي الساعة 7 مساءً، وذلك نظراً لاضطراب الأوضاع الأمنية بشكل أساسي وعدم وجود مقومات الاستمرار بالبيع والشراء مساءً، مثل توقف إمدادات الكهرباء والطاقة بشكل عام. وهذا مغاير تماماً لما كان عليه الحال قبل العدوان، حيث كان المراكز والأسواق التجارية تعمل حتى منتصف الليل.

خامساً: موجودات الأسواق:

أصبحت الأسواق تعتمد على ما هو موجود من مخزون لدى التجار قبل بدء العدوان وإطباق الحصار على القطاع، أو على الكميات القليلة جداً التي تهرب من جنوب القطاع، والتي لا تغطي حجم الطلب الكبير من المواطنين. ويقوم أصحاب شاحنات المساعدات التي تدخل لشمال القطاع بتهريب بعض المستلزمات الأساسية مثل الطحين والخضروات والسكر والأرز، وذلك إما لعائلاتهم أو لبيعها في الأسواق بأسعار خيالية جداً. علاوة على ذلك، يساهم البعض في الأسواق ببيع جزء من المساعدات التي استلموها، نظراً لحاجتهم الماسة للسيولة النقدية.