يحتل الحزن مساحة واسعة من قلب السيدة الفلسطينية ألاء الأستاذ وهي أم لطفلين، وتعاني إعاقة سمعية خلقية، على ضوء مكابدتها لمعاناة مضاعفة عن غيرها من الأصحاء في ظل الحرب التي انقضى عامها الأول، وهي تعيش تحت ظلال الخيمة.
عام كامل مضى تجرعت فيه السيدة الأستاذة صنوف المعاناة، فمنذ اليوم الأول الذي اندلعت فيه الحرب، اضطرت لإخلاء مسكنها الواقع في شمال القطاع والانتقال إلى بيت والدها الواقع في حي الصبرة وسط مدينة غزة.
بعد يومين من النزوح القسري تحت وطأة القصف، سقط صاروخ بالقرب من مسكن عائلتها، وأصيبت على أثره إصابة بالغة في قدمها كما أصيب أحد أطفالها أيضاً، ونتيجة لشدة الانفجارات المتتالية لم تعد السيدة الأستاذ تسمع البتة كما لم يعد باستطاعتها تحديد مواطن الاستهداف الأمر الذي عرضها وأطفالها للخطر.
ومع توالي العمليات العسكرية البرية، اضطرت أسرتها لإخلاء المسكن والاتجاه إلى جنوب وادي غزة، وهناك بدأت تعيش معاناة إضافية نتيجة الإقامة داخل خيمة لا تقي حر الشمس ولا برد الشتاء.
وتعيش المئات من النساء اللواتي يواجهن إعاقات مختلفة، في ظروف صعبة ومعقدة تتعارض مع ما ينص عليها القانون الدولي الإنساني، والذي يضمن الحماية للأشخاص المدنيين في أوقات الصراع بما فيهم الأشخاص من ذوي الإعاقة، مع ضرورة توفير الرعاية الصحية والغذاء.
وتبرز التحديات جليةً في وصف السيدة الأستاذ لواقعها، قائلةً: "لقد قلبت حياتي رأسا على عقب، حيث أصبحت اعتمد على الرمال في غسل الأواني، وأجمع الغسيل في حوض بلاستيكي، واقضي النهار في غسل الملابس ونشرها، فضلا عن طهي الطعام بالاعتماد على القليل من المعلبات والبقوليات، ناهيك عن أننا نعيش في بيئة غير أدمية وتنتشر فيها الأوبئة والأمراض".
تعتمد هذه السيدة اعتمادا أساسيا على سماعة الأذن لتساعدها على تجاوز إعاقتها، وبين وقت وآخر تنفذ البطارية المشغلة لهذه السماعة، وهي أزمة جديدة أضيفت إلى سلسلة أزماتها مؤخراً، حيث تمضي وقتا طويلا بحثا عن بطارية بديلة وتبوء محاولاتها في كثير من الأحيان بالفشل.
وتساءلت والدمع يشق طريقا على خديها: "إذا كنت أنا أعاني إعاقة سمعية واجد صعوبة في مواصلة الحياة تحت النار والحصار وانعدام فرص الحياة، فما بالكم بالأشخاص الأخرين الذين لديهم إعاقة حركية، أو بصرية؟".
وللتعرف فعلياً على ما يكمن أن تواجهه سيدة من ذوات الإعاقة البصرية في الحرب، التقينا سماهر الناجي، وهي أرملة تعاني إعاقة بصرية، وأم لطفين، أحدهم يعاني مرضا مزمناً. تقول الناجي ذات الوجه الشاحب إنها واجهت ما لم يواجه أشخاص أخرين من ذوي الإعاقة من تحديات، حيث اضطرت لاصطحاب طفليها في رحلة شاقة إلى جنوب القطاع تحت تهديد الاحتلال الإسرائيلي بالنزوح القسري للسكان المقيمين في شمال غزة، مطلع الحرب على القطاع.
لجأت السيدة الناجي رفقة أشقاءها والذين يعانون أيضا إعاقة مماثلة، إلى إحدى مراكز الإيواء في جنوب القطاع وهي عبارة عن مدرسة تابعة لوكالة الأونروا، غير أن إدارة المركز رفضت منحهم فصلا مستقلا يقيمون فيه حفاظا على خصوصيتهم.
وقالت: "لم نستطيع الحصول على ابسط الأشياء، بما في ذلك الفرشات والأغطية للمبيت، لولا أنني استعنت بأشخاص فاعلين خير لأجل إقامة خيمة تؤينا بعد تكرر عمليات النزوح بين حين وأخر".
وأضافت "ها نحن الآن نعيش داخل هذه الخيمة المشتركة، وأعاني باستمرار من فقد أشيائي، بما في ذلك ملابس أطفالي(..) لو كان هناك مراعاة لظروف الأشخاص من ذوي الإعاقة ومنحهم حقهم في الاستقلالية، لخفف ذلك عنا الكثير من المعاناة".
وأكدت الناجي أنه ما كانت لتفقد اشيائها لو كانت تعيش في خيمة مستقلة رفقة طفليها، حيث تعتمد على احضار أغراضها عن طريقة اللمس، لكن اشتراك أشخاص أخرين معها في ذات الخيمة يعقد عليها الأمر في مواصلة حياتها بشكل شبه طبيعي.
فضلا عن ذلك، تكابد هذه السيدة عناء المبيت على أرضية رملية غير معزولة، وقالت: "طعامنا مجبول بالرمال، وأغطيتنا كذلك، ونجد أنفسنا مرغمين على التأقلم مع هذا الواقع القاسي"، وأشارت إلى أنها تجد نفسها مضطرة لتحضير الدقيق والطهي لإطعام صغيريها دون مساعدة من أحد لكنها تواجه معاناة كبيرة في التعامل مع إشعال مواقد الحطب، حيث تحول إعاقتها دون تجاوز مخاطر التعرض للحرق.
وفيما يخص الإنفاق على الأسرة، فأوضحت السيدة الناجي إنها تعتمد على المساعدات التي تحصل عليها بين حين وأخر، مشيرة إلى أن غذائها وصغيريها قوامه المعلبات والبقولية فقط، في ظل انعدام مصدر الدخل.
واقع يرى فيه المحامي الفلسطيني بلال البكري، إنه يتعارض مع كافة المواثيق الدولية التي راعت حقوق الإنسان وضرورة حماية المدنيين وتوفير احتياجاتهم بما في ذلك الأشخاص من ذوي الإعاقة.
وقال البكري "إن هذا الواقع يستوجب من الجهات الدولية اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتوفير الحماية للأشخاص والنساء ذوات الإعاقة، كما على الجهات المحلية العمل من أجل ضمان وصول المساعدات الإنسانية لهم/ن بشكل آمن وعادل وشامل لكافة احتياجاتهم/ن".
وطبقا لورقة موقف صادرة عن مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية، فإنه وبنزوح 80% من سكان القطاع، وبحسب تقرير نشر عام 2019 أشير فيه إلى عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في غزة قد وصل إلى حوالي 47 ألف شخص، نستطيع التقدير أن عدد الأشخاص الذين نزحوا من ذوي الإعاقة قد وصل إلى نفس النسبة تقريبا. وبما عدده 37.600 شخص، وهؤلاء قد لجئوا إلى ملاجئ الأونروا، والمدارس الحكومية، إضافة إلى بيوت الأقارب وغيرهم.
النزوح الهائل لمعظم الأشخاص ذوي الإعاقة لم يأتِ دون أثار سلبية كبيرة تمثلت في خسارة البيوت الموائمة لهم/ن، تاركين/ات خلفهم في الغالب أدويتهم/ن وأجهزتهم/ن المساعدة، بل وعلاجاتهم وخدمات التأهيل ومتابعاتهم الطبية الهامة لصحتهم بسبب حصار وتدمير المشافي.
وتشير ورقة الموقف، إلى أن الأشخاص من ذوي الإعاقة يعانون من صعوبات نتيجة ممارسة الاحتلال، والإقصاء الاجتماعي والاقتصادي، وكذلك السياسات الحكومية غير المستجيبة لمطالبهم/ن. فضلا عن أن النساء ذوات الإعاقة يتعرضن للعنف والإقصاء بشكل مضاعف، حيث يتعرضن لعنف مركب وتمييز على أساس النوع الاجتماعي والإعاقة.
السيدة هبة رزق التي تعاني من إعاقة حركية وتعتمد على عكزين في حركتها، فلم تكن أحسن حالاً من سابقاتها، حيث أنها لا تواجه إعاقتها فحسب وإنما توكل إليها مهمة رعاية أمها التي تعاني شللا نصفيا، وأشقائها الآخرين الذين يعانون إعاقات مختلفة، وتضطر لتحمل مسؤولية إعالة الأسرة وتدبير أمورها.
تشرح السيدة هبة رحلة نزوحها قائلة: "نزحت رفقت أسرتي من شمال قطاع غزة، بعد أن استعرنا كرسيا متحركا ليعين أمي على الانتقال، وخلال الطريق عطف علينا سائق أجرة فقام بنقلي عبر الصندوق الخلفي للمركبة فيما تقلدت أمي المقعد الأمامي وأشقائي كانوا في المقاعد الخلفية حتى وصلنا الحاجز (..) أذكر حينها أن الساعة كانت تشير إلى العاشرة صباحاً ولكننا وصلنا إلى هنا بشق الأنفس سيرا على الأقدام بعد نحو عشر ساعات، لقد قطعت المسافة منتقلة عبر العكازين".
وأضافت السيدة المكتنزة "هي رحلة لا يمكن وصفها، ولا يمكن نسيان معانتها، لقد كنت أسير والدمع يتقاطر من عيناي". وأشارت إلى تعرض أسرتها أربع مرات للنزوح، وفي كل مرة يضطرون إلى طلب المساعدة ممن هم حولهم لأجل إنشاء خيمة جديدة".
ووسط حالة من الفوضى التي تحياها العائلات النازحة، قالت هبة، إن المكان الذي نعيش فيه غير ملائم نهائيا، ومقومات الحياة معدومة، فنحن نسير على رمال ملوثة ونقطع مسافة طويلة للوصول إلى المياه، ولا تتوفر حمامات لقضاء الحاجة".
أما عن توفير الطعام والأغذية، فأوضحت أنها تؤثر الأطفال على نفسها، ومع ذلك فهم لا يحصلوا سوى على وجبة واحدة يومياً، فيما تمتنع هي عن الطعام في كثير من الأحيان، مبينةً أنها تعاني أيضا نتيجة عدم توفر مصدر دخل للأسرة يعينها على توفير الاحتياجات الأساسية كالحفاظات لوالدتها، فضلا عن عدم توفر كراسي متحرك يعينها وأمها على الانتقال من مكان لأخر، خصوصا إذا تكررت عمليات النزوح القسري.
وخلال محاولة رصد آثار الحرب والعدوان على الأشخاص من ذوي الإعاقة في قطاع غزة، فقد جرى محاولة الاتصال مع 100 مبحوث/ة، فيما نجح الوصول إلى 36 مبحوثاً/ة، ويعزى ذلك إلى انقطاع الاتصالات وخدمات الإنترنت، والنزوح من المنازل. والعيش في ظروف صعبة وضاغطة داخل مخيمات النزوح.
وتشير البيانات التي جمعها وحللها مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية ومقره رام الله، إلى أن ما نسبته 77.8% من الأشخاص ذوي الإعاقة المبحوثين/ات قد نزحوا من بيوتهم، وجزء منهم نزح أكثر من مرة، فيما وصلت عدد مرات النزوح لدى البعض إلى 6 مرات. فيما تشير الأرقام إلى أن ما نسبته 19.4% فقدوا بيوتهم تماماً نتيجة الهدم الكلي للمنازل. بينما ما نسبته 27.8% تعرضت بيوتهم للهدم الجزئي نتيجة القصف.
وبحسب مرصد السياسات فإن هذه النسب تظهر تجريف مقومات حياة الأِشخاص ذوي الإعاقة، والآثار بعيدة المدى وهائلة التأثير عليهم/ن مستقبلاً، حتى لو توقفت الحرب الآن، ناهيك عن الآثار الصحية نتيجة فقدان الوصول للأدوية والعلاجات والطعام والماء المناسب للشرب، إذ أجاب كل المبحوثين/ات من الأشخاص ذوي الإعاقة إلى أن احتياجاتهم/ن تتمحور حول الطعام والدواء، وهو ما يؤشر إلى خطورة وضعهم الصحي.
تشير النتائج أيضاً إلى أن المواءمات المخصصة للأشخاص ذوي الإعاقة تعرضت للتدمير خلال عام كامل من الحرب، وذلك استنادا لنسبة النزوح المرتفعة، بالإضافة إلى نسبة البيوت المهدمة كليا أو جزئيا. كما أكد بعض المبحوثين/ات على أنهم فقدوا المواءمات المنزلية أو أنهم فقدوا أدواتهم المساعدة، إلى جانب التدمير الكبير الذي لحق بالبنية التحتية. الأمر الذي يشكل خطرا مضاعفا على هؤلاء الأشخاص والمتمثل في عدم قدرتهم/ن على التنقل والإخلاء بسهولة، خصوصا في حال استشهاد أو إصابة عدد من أفراد أسرتهم/ن ممن يقدمون لهم/ن المساندة.
وواجه الأشخاص من ذوي الإعاقة صعوبة مضاعفة في القدرة على الإخلاء مرتبطة بانقطاع الكهرباء والانترنت مما صعب عليهم/ن الوصول إلى المعلومات التي قد تساعدهم/ن في تحيد المكان، والزمان والتنقل بحد أدنى من الأمن.
على ضوء ذلك قال الأخصائي النفسي والاجتماعي عطا سليمان، إن الأشخاص من ذوي الإعاقة عموما والنساء بوجه خاص يواجهن تحديات نفسية قاهرة نتيجة الظروف التي مروا بها خلال عام كامل من الحرب.
وقال سليمان، تتعمق هذه التحديات النفسية كلما وجدت النساء من ذوات الإعاقة أنفسهن عاجزات عن تأمين احتياجات أسرهن الغذائية نتيجة الظروف التي يعيشونها وانعدام مقومات الشمول، بسب وجود جزء كبير منهم في ملاجئ تستقبل أضعاف طاقتها الاستيعابية، فبحسب الأونروا تجاوز متوسط عدد النازحين/ات للمأوى الواحد 9 آلاف ناحا/ة.
وأشار إلى أن الأشخاص من ذوي الإعاقة بما فيهم النساء هم بحاجة إلى تدخل عاجل من أجل العمل على تحسين ظروفهم النفسية والصحية بمساندة كافة المؤسسات الأهلية والرسمية والدولية، موجها انتقاداً للجهود الحكومية التي قال إنها لا ترتقي للمستوى المطلوب في مساندة وإعالة الأشخاص من ذوي الإعاقة والذين يرزحون تحت ظلال الحرب منذ عامل كامل.
ويضطر الأشخاص من ذوي الإعاقة للاصطفاف في طوابير طويلة للحصول على الخبز أو المياه وأحيانا لا يستطيعون الحصول عليها بسبب النفاذ. كما تظهر معاناة إضافية في الوصول إلى المساعدات، وهي عائدة إلى عدم وجود أي ترتيبات خاصة للأشخاص ذوي الإعاقة، لاسيما أن الأشخاص من ذوي الإعاقة البصرية قد عبروا عن شكواهم من الصعوبات التي يواجهونها عند الوقوف في طوابير المياه والغذاء، فيحدث في أحيان كثيرة تدافع وبالتالي لا يستطيعون الحصول على المساعدات.
وبشكل خاص تواجه النساء من ذوات الإعاقة تحدي كبير يتعلق بانعدام القدرة على الوصول للخدمات الصحية والوصول إلى دورت المياه، وكذلك الازدحام الكبير في الملاجئ والبيوت، حيث لا تتمكن النساء عموما بمن فيهم النساء ذوات الإعاقة من تلبية متطلباتهن الصحية.
في الأثناء قال مصدر في وزارة الصحة بقطاع غزة، رفض الكشف عن اسمه، إن وزارته لا تدخر جهدا في تقديم الدعم والرعاية للأشخاص من ذوي الإعاقة، غير أن الاحتياجات الكبيرة والمتزايدة للمواطنين والمتزامنة مع انعدام الموارد بشكل كامل، يعيق تقديم الكثير من الخدمات.
وأكد المصدر، أن الجهود الحكومية لا تزال تواجه تحدي الملاحقة من قبل الاحتلال والاستهداف المتكرر، الأمر الذي يعيق تنفيذ أي من برامج الدعم والإسناد للأشخاص من ذوي الإعاقة وغيرهم من الفئات المجتمعية المهمشة.
وتسببت الحرب على قطاع غزة في انضمام آلاف الفلسطينيين/ات إلى صفوف الأشخاص ذوي الإعاقة، عقب تعرضهم للإصابات المختلفة نتيجة القصف المدمر للبيوت والمستشفيات الآمنة، وتحديدا بتر الأطراف. وتشير المعطيات الأولية إلى أن معظمهم من الأطفال والنساء.