ما من كارثة إنسانية صاحبت الحرب على قطاع غزة، إلا ومرت على النساء الفلسطينيات اللواتي يعشن تحت ظلال القذائف والقصف منذ قرابة أحد عشرة شهراً، وتجرعن مرارتها وقهرها.
واحدةٌ من تلك الكوارث هي سياسات التجويع الإسرائيلي للسكان القاطنين في محافظتي غزة والشمال والمقدر عددهم بنحو 500 ألف نسمة. غير أن تأثير تلك السياسات على النساء كان أكثر حدةً وتنوعًا، بسبب الأدوار والمسؤوليات الاجتماعية المنوطة بهن والتمييز المبني على النوع الاجتماعي. فضلاً عن أن منهن أمهات، وحوامل ومرضعات، وأخريات معيلات لأسرهن.
وتخطف انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في القطاع بشكل يومي، الأنظار عن التداعيات الصحية والنفسية والاجتماعية على حياة النساء. غير أنه من الضروري الإضاءة على هذه المعاناة لأجل تمكين النساء والفتيات من التعبير عن أصواتهن والمطالبة بحقوقهن الأساسية في ظل الظروف الصعبة التي يفرضها الاحتلال.
تداعيات سياسة التجويع على نساء شمال غزة كونهن أمهات:
النساء في محافظتي غزة والشمال، اتجهن غالبًا لتقليل طعامهن لأجل توفير المزيد لأسرهن، مما تسبب لمعظمهن بالنحافة الشديدة، لاسيما العائلات تعاني من انعدام الأمن الغذائي الحاد، مما وضع الأمهات في موقف صعب حيث تعين عليهن مواجهة الجوع مع توفير الغذاء لأطفالهن.
وتشكل النساء في القطاع ما نسته 49% من عدد السكان، وهذا يعني أن نحو 250 ألف امرأة على الأقل، تعاني من سياسات التجويع التي تفرضها قوات الاحتلال الإسرائيلي على المحافظتين.
نسرين العكلوك سيدة في الخمسين من عمرها، تقطن شمال وادي غزة، قالت إنها تواجه تحدي النزوح من مكان لآخر بشكل يومي، هرباً من القصف الإسرائيلي لمناطق متفرقة من محافظتي غزة والشمال، الأمر الذي يضطرها لترك المؤن الغذائية المتوفرة لدى أسرتها خلال رحلة النزوح.
تناولت السيدة العكلوك خلال الحرب القائمة-دون وجود أفق لوقف إطلاق النار- أعلاف الحيوانات نتيجة شدة الجوع، مما أدى إلى أصابتها بعدة أمراض وفقدت خلالها 20 كيلوجرامًا من وزنها، مشيرةً إلى أن ارتفاع أسعار السلع الغذائية المحدودة في الأسواق يحول دون اقتناءها، وتلبية احتياجات أبنائها من الأطعمة والخضروات.
وقالت: "في الواقع تتضاعف أوجاع الحرب بداخلي، ويصبح ألم جوع أبنائي كالجرح في قلبي كل ليلة".
وتعتبر المرأة في قطاع غزة، هي مقدم الرعاية للأسرة وتتحمل المسؤولية الوحيدة أو الأساسية لرعاية الأطفال وكبار السن وأفراد الأسرة المرضى. كما أن النساء غالباً يتحملن العبء الأكبر في تحضير الطعام لأسرهن، ووفق إحصاء أجرته هيئة الأمم المتحدة في مختلف أنحاء قطاع غزة تبين أن 70% من النساء والرجال المستطلعة أراءهم، ذكروا أن رعاية الأطفال بما في ذلك إطعامهم والعناية بصحتهم الجسدية، هي مسؤولية الأم في المقام الأول.
وطبقاً لإفادة فريق حقوقي محلي، قام على توثيق معاناة النساء نتيجة المجاعة القائمة في شمال وادي غزة، فإن النساء يجبرن على تخطي وجبات ويؤثرن أبنائهن على أنفسهن عند تناول الطعام المتوفر، وهو ما أدى إلى خسران ما بين 4-20 كيلوجراماً من أوزان النساء منذ بدء الحرب في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
يقول ماكسيمو توريرو رئيس الخبراء الاقتصاديين في منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة: "إنه رغم بعض التحسينات في المناطق الشمالية، مازال الوضع هشاً وحرجاً للغاية ولا يمكن توقعه، وإنه لا يمكن لأي تغيير ملحوظ أن يؤدي إلى تدهور الأوضاع بسرعة وإلى حدوث مجاعة في غزة".
وأضاف توريرو "أن العمليات البرية مستمرة بشدة في شمال غزة، ما يؤدي إلى نزوح قسري يزيد من تفاقم تردي الأوضاع الاجتماعية وحالة الأمن الغذائي".
تداعيات التجويع على النساء الحوامل والمرضعات:
تواجه الشابة العشرينية ليالي الشنباري، أزمتين صحية ونفسية في آن واحد نتيجة الحرب. وفقدت هذه السيدة جنينها بسبب عمليات النزوح القسري بحثاً عن مكان آمن من القصف الإسرائيلي، وندرة الغذاء بسبب منع الاحتلال دخول المواد الغذائية إلى شمال القطاع.
وقالت الشنباري: "كنت حاملاً في الشهر الخامس ولم يكن لدينا خضروات أو فواكه ولا حتى دقيق، الأمر الذي اضطرني إلى تناول أعلاف الحيوانات المطحونة، وكنت أشعر بالكثير من الإرهاق ولم أكن أستطيع ممارسة حياتي اليومية بشكل طبيعي، وكنت أعاني ألاما في المفاصل وقلقاً دائماً خشية على حياة جننيني الأول وفقدت 15 كيلوجراماً من وزني، إلى أن اضطررت للولادة المبكرة ووضعت طفلةً لم استطع إرضاعها طبيعيا، لأن الحليب لم يتدفق من صدري نتيجة سوء التغذية".
وعلى ضوء إعطاء المولودة حليباً صناعياً، أصيبت بالتهاب حاد في الرئتين تسبب في وفاتها بعد نحو شهر من ولادتها. "شعرت بذنب عظيم واعتقدت أنني لا استحق أن أكون أماً، تمنيت لو أنني أستطيع الموت واللحاق بها لأرضعها".
لم تنته المأساة عن هذا الحد، حيث حملت الشنباري مجددا بعد ثلاثة أشهر، في ظل المجاعة التي لا تزال قائمة حتى كتابة هذه الأسطر، وهو ما تسبب لها بفقر الدم، بالإضافة إلى نزلات معوية ودوار مستمر. وبعد نحو ثلاثة أشهر فقدت جنينها بسبب نقص التغذية.
وقالت والحزن يخيم على وجهها: "أخبرني الطبيب أنه لو كانت تتوفر التغذية الصحية والمكملات الغذائية، لكان من الممكن أن يكتمل نمو الجنين وأن تكون هناك فرصة للحفاظ عليه(..) لا يوجد ألم يفوق ألم الأم التي فقدت طفلها، فكيف إذا فقدت اثنين وكانا أول فرحتها؟ لا توجد كلمات يمكنها التعبير عن هذا الحزن العميق الذين لن يزول".
وليست الشبناري وحدها التي تعاني، حيث تشكو الفلسطينية آية شبير (28 عاماً) أيضاً والتي وضعت مولودها خلال الحرب، من اعياء شديد ناتج عن سوء التغذية الناجم عن المجاعة القائمة في شمال قطاع غزة.
وقالت شبير: "في بداية هذا العام كنت حامل ولم يكن يتوفر لدينا حتى الدقيق، مما جعلني اتناول الأعشاب وعلف الحيوانات المطحونة، نتيجة سياسة التجويع ومنع إدخال المساعدات إلى شمال غزة".
وأضافت شبير "فقدت خلال الحرب ما يزيد عن 10 كيلوجرامات من وزني رغم حاجتي كامرأة حامل لتناول غذاء صحي لي ولجنيني، والآن أنا في فترة الرضاعة بعدما وضعت طفلي بصعوبة بالغة نتيجة تردي الخدمات الصحية، وأعاني من صعوبة في إدرار الحليب بسبب نقص الغذاء الجيد، وبخاصة أن الخضروات والفواكه واللحوم نادرة، وإذا توفرت فهي باهظة الثمن ولا قدرة لدي على تحمل تكاليفها".
وأوضحت أنها تشعر أثناء الرضاعة بإرهاق وغثيان وهزال شديد، كما تعاني من صداع مستمر وفقر دم وألام في العظام. ورغم ذلك ترى أنه من الطبيعي أن تؤثر إطعام أطفالها على نفسها".
وتشير تقديرات محلية إلى أن عدد المواليد بلغ 60 ألف مولود، منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر الماضي.
ويعتبر الحمل والرضاعة عمليتان بيولوجيتان حصريتان للنساء. وتحتاج النساء قبل الحمل إلى اتباع أنماط غذائية مغذية وآمنة لتكوين احتياطات غذائية كافية لفترة الحمل. وخلال الحمل تزداد احتياجات المرأة للطاقة والمغذيات بشكل كبير. لذا فإن تلبية هذه الاحتياجات ضروري للحفاظ على صحة الأم وطفلها، سواء أثناء الحمل أو في مراحل الطفولة المبكرة.
وبلغ عدد النساء الحوامل في قطاع غزة وفق تقديرات وزارة الصحة الصادرة في ديسمبر الماضي، نحو 50 ألف امرأة، غالبيتهن يفتقدن إلى للرعاية الأولية وخدمات الولادة وحالات الحمل الخطر بالشكل الأمثل ونثق التغذية السليمة.
وقالت الطبيبة سناء محمود (*)، إن النساء الحوامل تأثرن بشكل كبير نتيجة الحرب، لاسيما سياسة التجويع التي يفرضها الاحتلال على شمال غزة، علماً أن سوء التغذية يزيد من مخاطر الحمل على النساء، فضلا عن أنه يهدد حياة أجنتهن.
وأوضحت الطبيبة محمود أن النساء الحوامل وكذلك المرضعات هن بحاجة ماسة إلى برنامج غذائي يضمن سلامة صحتهن وأطفالهن، في الوقت الذي يتحكم فيه الاحتلال في نسب السعرات الحرارية والبروتينات التي يمكن أن يحصل عليها كل فرد محاصر داخل القطاع.
عدا عن ذلك، أشارت الطبيبة إلى النقص الشديد المتعلق بالأدوية وخدمات الأمومة والطفولة في شمال القطاع، بالإضافة إلى تأثر نظام تطعيم الأطفال والنظافة داخل المشافي، وهذا يجعلهن أكثر عرضة لحدوث عدوى.
وسبق أن أفادت منظمة "العمل ضد الجوع" أن ما بين الأول والعشرين من مايو الماضي، سهلت السلطات الإسرائيلية %50 فقط من بعثات المساعدات الإنسانية في جنوب غزة و%37 في شمال غزة، وغالباً ما تعيق السلطات هذه المشاريع أو ترفضها تمامًا."
كما أوضحت المنظمة أن عمليات توزيع الأغذية، يعد أقل تنوعاً وأقل تغذية وأنه لم يعد بإمكانهم توزيع اللحوم أو البيض، ولم يتمكنوا من توزيع الخبز لعدة أسابيع، والمنتجات التي أدخلوها ليست كافية لمكافحة سوء التغذية".
تداعيات التجويع على النساء المعيلات لأسرهن:
لم تعط الحرب للسيدة الفلسطينية ذكريات المعصوابي (42عاماً)، مساحة للحزن جراء فقدان زوجها، حيث اضطرت لتجفف دموع الفقد عن وجنتيها وتنهض لتتحمل مسؤولية إعالة أطفالها وإطعامهم.
وقالت المعصوابي: "المجتمع يستضعف النساء لاسيما الأرامل، لعدم قدرتهن على التدافع مع الرجال للحصول على المساعدات، وهذا يؤثر سلباً على حياتهن ويزيد من التحديات التي تواجههن".
وأضافت "غالباً ما نكتفي بوجبة طعام واحدة خلال اليوم الواحد إذا ما توفرت وربما لا تتوفر، فنحن نعاني نتيجة عدم وجود معيل، ونعتمد اعتماداً رئيسياً على المساعدات الإغاثية وهي شحيحة ولا تغطي الاحتياجات اليومية للأسرة".
تمسح السيدة دمعاً انساب على وجنتها، قبل أن تشرح ألامها النفسية قائلةً: "أطفالي ينامون جوعى، وأنا أقضي الليل بكاءً وحزناً نتيجة العجز الذي يكبل يدي، فدموع جوعهم كأنها سكين تقطع أوصالي، فأنا ما توانيت أن أفضلهم على نفسي لكني اليوم عاجزة عن توفير الطعام لي ولهم، فضلاً عن أني خسرت إلى الآن 30 كيلوجراماً من وزني.
وتتعرض النساء اللاتي يعولن أسرهن لضغوط إضافية بسبب فقدان المعيلين الذكور نتيجة الحرب. ويجدن صعوبة في تأمين الغذاء لأسرهن بسبب قيود العمل والتمييز الاجتماعي. فيما أن بعض النساء يلجأن لأعمال بسيطة غير كافية لسد احتياجات أسرهن، مما يزيد من معاناتهن ومعاناة أطفالهن.
وقالت رغدة حجازي في العقد الرابع من العمر، إنها اضطرت تحت وطأة تواجدها في شمال غزة بعيداً عن زوجها الذي ابعده الاحتلال إلى جنوب القطاع، للعمل في بيع المشروبات الساخنة.
وقالت حجازي "شتت الحرب شمل أسرتنا، حيث أجبر الاحتلال زوجي على الانتقال إلى جنوب القطاع بعدما اعاده قسراً من الضفة الغربية حيث كان يعمل، وبقيت أنا وأبنائي هنا في شماله، وبعدما تعذر الحصول على عمل مناسب وانعدام الخيارات أمام النساء اللواتي يعانين من التمييز نتيجة النظرة المجتمعية، بدأت بإعداد المشروبات الساخنة، لكن الدخل لم يكن كافياً لإطعام أطفالي.
وأوضحت أن أطفالها كثيرا ما يبكون نتيجة الجوع، فقد عجزت عن شراء المواد الخام اللازمة لتحضير المشروبات بفعل ارتفاع أسعارها بشكل جنوني، مما اضطرها للتوقف عن العمل والاعتماد اعتمادا رئيسيا على المساعدات الإنسانية.
وقالت "أشعر بعجز كبير أمام جوع أطفالي وعجزي عن شراء الخضروات المحدودة المتاحة في الأسواق، في ظل ارتفاع أسعارها، وعدم وجود مصدر دخل، هذا كله يجعلني محطمة نفسياً وأشعر أني محاطة باليأس والعجز".
ويقول المختص النفسي محمد مهنا، إن الحرب ألقت بظلال سلبية على النساء في قطاع غزة، لاسيما أولئك اللواتي يعلن أسرهن في ظل فقدان المعيل بالتزامن مع انعدام مصادر الدخل وغياب تكافؤ الفرص في الحصول على المساعدات.
وأكد مهنا أن الأذى النفسي الناجم عن الحرب يبدو أكثر تأثيرا على النساء اللواتي يواجهن تحدي تحمل مسؤولية توفير الأمن والرعاية والغذاء لأطفالهن في ظل عمليات القصف المتواصل، مشيراً إلى أنه من الصعوبة بمكان أن يسهم الدعم النفسي في تحقيق أثر ملموس، ما لم تتدخل المنظمات الدولية لوقف المجاعة وتوفير الأغذية وتحسين جودة حياة النساء وبخاصة الأرامل.
ويتعارض الواقع الذي تعيشه النساء، سواء الأمهات أو المرضعات والحوامل، أو المعيلات لأسرهن في ظل فقدان المعيل، مع ما نصت عليه المواد الواردة في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وطبقاً لورقة حقائق صادرة عن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، بعنوان "سياسة التجويع الإسرائيلية في ظل جريمة الإبادة الجماعية: كيف تتأثر النساء والفتيات في شمال غزة "، أن تعمد تجويع المدنيين بحرمانهم من المواد الأساسية للبقاء، يعد جريمة حرب وفقًا لمادة 8 (2) (ب) (25) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ومادة 54 (1) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف.
وبحسب ورقة الحقائق فإن هذه المواد تحظر التجويع كوسيلة حرب، ويُعد استخدامه ضد المدنيين جريمة إبادة جماعية إذا كان يهدف إلى تدمير مجموعة قومية، أو إثنية أو دينية كليًا أو جزئيًا.
وعبر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، عن مخاوفه من تفاقم انعدام الأمن الغذائي ووصوله إلى مستويات غير مسبوقة في شمال قطاع غزة، وتأثير ذلك على النساء، لذلك طالب المجتمع الدولي بالضغط على دولة الاحتلال الإسرائيلي لوقف "جريمة الإبادة الجماعية وفرض وقف إطلاق النار لكبح بدء مجاعة حقيقية في شمال غزة وإلزامها بصفتها قوة احتلال الامتثال لقرار محكمة العدل الدولية التمهيدي الصادر بتاريخ 26 يناير الماضي والذي يقضي بأن تلتزم إسرائيلي وفقا للنقطة (4) (ج)، فيما يتعلق بالفلسطينيين بالامتناع عن واتخاذ جميع التدابير الممكنة بما في ذلك إلغاء الأوامر والقيود أو الحظر ذات الصلة لمنع، الطرد والتهجير القسري والحرمان من الوصول إلى الغذاء والماء الكافيين. والوصول إلى المساعدات الإنسانية والمساعدات الطبية.