غياب الرقابة والمجاعة تعززان انتشار الأطعمة المغشوشة

في شمال غزة

غياب الرقابة والمجاعة تعززان انتشار الأطعمة المغشوشة

في ظلّ العجز عن توفير أطعمة لأطفاله الخمسة، اضطر المواطن الفلسطيني محمود عبد الرحمن، إلى شراء صندوق غذاء (كورن فليكس)، بوصفه وجبة صحية يمكن أن يستفيد منها أطفاله في ظل معاناتهم مع عدم توفر الأغذية في شمال قطاع غزة نتيجة الحرب المستمرة منذ تسعة أشهر، لكنه لم يكن يدري أن هذا المنتج منتهي الصلاحية.

وبمجرد أن تناولت طفلته رهف (سبع سنوات)، طبقًا من هذا الطعام، حتى بدأت تشعر بإعياء شديد توجب نقلها إلى المشفى المعمداني وسط مدينة غزة، وهناك تبين إصابتها بالتسمم.

ليست الطفلة رهف وحدها التي أصيبت بالتسمم، هناك عشرات الأشخاص معظمهم من الأطفال قد أصيبوا بالإعياء نتيجة تناول أغذية فاسدة أو مغشوشة اضطروا إليها نتيجة المجاعة التي تضرب أطنابها في شمال قطاع غزة، بفعل منع الاحتلال إدخال المواد الأساسية كالغذاء والخضروات واللحوم، يترافق ذلك تدني مستوى الخدمات الصحية المقدمة للمرضى.

تحت وطأة الجوع

وأصيب في يونيو الماضي 60 طفلاً بحالات تسمم نتيجة المساعدات الغذائية غير الصالحة، وفقاً لوزارة الصحة بغزة، فيما تنتشر السلع المغشوشة في الأسواق المحلية بشمال قطاع غزة على وجه الخصوص، كالنار في الهشيم، ويتدافع المواطنون نحو اقتناءها تحت وطأة الجوع والاحتياج.

هذا الواقع قادنا إلى القيام بجولة على الأسواق التي انتشرت بين الأحياء في شمال غزة، للاطلاع على محتوى الأطعمة والمشروبات التي تباع عبر البساطات على الرغم من قلتها. ومن هذه الأصناف على سبيل المثال لا الحصر: مشروبات العصائر المركبة والممزوجة بالأصباغ، الأطعمة المصنعة بلحوم المعلبات، الشيبس البيتي، والسكاكر وحلوى البسكويت المصنعة يدوياً.

وفي الحقيقة، تشكل تلك الأصناف قبلةً للأطفال الذين وجدوا فيها ملاذاً في ظل الحرمان الذي يعانون منه نتيجة الحرب المستمرة منذ أكثر من 290 يوماً، وربما هذا ما يفسر انتشار حالات التسمم في أوساط الأطفال بوجه خاص.

وبنظرة أكثر عمقاً لتلك الأطعمة والمشروبات تبين أنها تنتج يومياً دون اتباع أي من الشروط الصحية الواجب اعتمادها للحفاظ على سلامة الغذاء، فضلًا عن عدم وجود بطاقة بيان، وجميعها سلعاً لا تتطابق مع ما ينص عليه مجموعة القوانين الناظمة بما فيها الصحة العامة، وحماية المستهلك وكذلك المواصفات والمقاييس الفلسطينية. 

ورفض بائع عصائر اطلاعنا على عملية التصنيع، وقال إنها مزيج من المشروبات والنكهات المختلفة التي يقوم بخلطها، وتخزن في صندوق تبريد يعمل بالطاقة الشمسية، ثم يبيعها للزبائن. 

يضاف إلى ما تقدم، أن هناك بسطات تعمل على تقديم الوجبات السريعة للمواطنين سواء المقيمين أو النازحين، قوامها فول الصويا، حيث يقوم الباعة بطحنه ومن ثم يضيفون إليه بعضا من البهارات ويبيعونه على أنه لحوم نباتية، دون الاستناد إلى مرجع صحي يؤكد سلامة هذا النوع من الطعام.

يقول التاجر ثائر زياد (*) إنه باع كمية تزيد عن طنين من الصويا لباعة أطعمة ولمواطنين أيضاً، واستخدمت الكمية كاملةً بديلاً عن اللحوم، كاشفاً في الوقت نفسه عن أن استخدام مصطلح "بديل لحوم" صيغة دعائية لجلب الزبائن.

يشير التاجر زياد الذي لم يكمل تعليمه الثانوي، إلى أن السكان بحاجة ماسة إلى الأطعمة واضطروا لاستخدام بدائل لأجل الاستمرار في الحياة، وقال: "في نهاية المطاف لا نقصد التسبب بالضرر للزبائن، ولكنها أفكار يتداولها الناس بأن هناك بدائل لكذا، ويباشرون بالبحث عن هذه السلع، وبالتالي نحن نضطر لجبلها تلبية لرغبة الزبائن، وكي نسترزق أيضاً".

أمراض صحية

هذه السلع التي ذاع صيتها في أوساط المواطنين الذين يعانون من غياب عدالة توزيع المساعدات، أصابت الكثير منهم بأمراض صحية، طبقاً لما قالته الطبيبة سناء وجيه (*) والتي أخبرت عن توافد العديد من الحالات مصابة بتلبك معوي أو بتسمم أو تعاني من الحساسية نتيجة تناول أغذية مغشوشة أو منتهية الصلاحية، ووصلت إلى مشفى كمال عدوان في شمال قطاع غزة - حيث مكان عملها - في حالة إعياء شديدة.

وأكدت الطبيبة وجيه، أن غالبية الحالات التي يتعاملون معها، هي من الأطفال الذين يتناولون أطعمة تباع بدون اتباع أي من معايير السلامة الصحية في تحضيرها، كأقراص الفلافل، أو الشيبس المصنع يدوياً أو السكاكر والحلويات التي تباع على النواصي دون تغليف، فضلاً عن المعلبات التي يتناولونها بإفراط والتي تحتوي على الكثير من المواد الحافظة التي تؤثر على صحتهم. 

وبما أنه يغيب غاز الطهي تماماً عن شمال القطاع، فإن السكان بما فيهم الباعة يعتمدون اعتمادا رئيسيا على الحطب والمخلفات البلاستيكية في اشعال المواقد، التي تستخدم غالبيتها في قلي الفلافل وحلوى "العوامة" وغيرها من أغذية مطهوة.  وجميعها تنتج في الطرقات، دون اتباع أدنى معايير السلامة الصحية الواجب اتباعها للحفاظ على سلامة المنتج. عدا عن استخدام زيت القلي بشكل متكرر وهو أمر ينذر بخطورة صحية، وفق الكثير من الدراسات الطبية.

ومن الواضح أن انتشار هذه السلع داخل أسواق شمال القطاع الذي يقطنه ما يزيد عن 700 ألف مواطن، يعود لسببين رئيسيين: الأول محاولة الاحتلال فرض المجاعة مما ضاعف احتياج السكان للسلع الغذائية والتنويع في الأطعمة خصوصا الأطفال، والثاني متعلق بانعدام كافة أشكال الرقابة على عمليات التصنيع والبيع. وبالتالي أصبح المواطن ضحية لما يمكن أن يصطلح عليه "فوضى السوق".   

ماذا يقول القانون؟

ينص قانون الصحة العامة رقم (20) لسنة 2004، في المادة (17)، على تولي وزارة الصحة بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة مراقبة الأغذية أثناء تداولها وكذلك داخل أماكن تصنيعها وتجهيزها.

فيما تضع المادة (19)، أربعة الضوابط تحدد إذا كان المنتج الغذائي غير صالح للاستهلاك الآدمي: الأول حدث تغير في خواصه الطبيعية من حيث الطعم أو المظهر أو الرائحة، والثاني ثبت بالتحليل حدوث تغير في تركيبته الكيماوية أو إضافة مواد كيماوية غير مسموح بها أو تلوثه بأحد الملوثات الكيماوية أو البيولوجية أو الإشعاعية. الثالث كانت مدة صلاحيته منتهية وفقاً للتاريخ المدون عليه. الرابع تم تداوله في ظروف أو بطرق غير صحية.

بينما ذكرت المادة (21) أنه يجب الالتزام بالمواصفات والشروط المحددة في التعليمات الفنية الإلزامية الصادرة عن مؤسسة المواصفات والمقاييس فيما يخص المنتجات الغذائية، وذلك بالتنسيق مع وزارة الصحة.

بيد أن قانون حماية المستهلك رقم (21) لسنة 2005، فوضع مجموعة من الحقوق الواجب أن يتمتع بها المستهلك والتي في مقدمتها الحفاظ على صحته وسلامته عند استعماله للسلعة أو الخدمة من حيث الجودة والنوعية، وكذلك العيش في بيئة نظيفة وسليمة وحصوله على سلعة وخدمة مطابقة للتعليمات الفنية الإلزامية، فضلا عن وضعه مجموعة من العقوبات على كل من يخالف ذلك وأي خروقات قانونية أخرى، لا يتسع ذكرها.  

في ظل حالة الفوضى التي يعانيها السوق حاليا نتيجة الحرب، تعتبر النصوص القانونية الآنفة، حبراً على ورق، وبخاصة أنه لا توجد أي من أدوات الرقابة الفاعلة على أرض الواقع، طبقاً لشكوى العديد من السكان الذين استمعنا إليهم.   

على ضوء ذلك، قال المحامي في الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن بكر التركماني، إن الحرب الدائرة في قطاع غزة قد أثرت في كافة مناحي الحياة، بما في ذلك أداء الجهات الرسمية وقدرتها على القيام بدورها، لاسيما الدور الرقابي على السلع والخدمات المقدمة للمواطنين تحت الحرب.

 وأضاف التركماني، أن هناك استهدافاً مباشراً وغير مباشر من قبل الاحتلال، لمختلف الطواقم بما فيها أفراد الشرطة الذين يقومون بواجبهم في فرض الأمن ومنع الاعتداءات والسرقة وغيرها. وأوضح أن هذه الممارسات التي يقوم بها الاحتلال، أثرت بشكل جلي على الدور الرقابي، ومع ذلك أشار إلى ضرورة وجود عملية رقابية تمنع من استغلال بعض التجار والباعة لحاجات الناس وبيعهم سلعا مغشوشة.

وشدد محامي الهيئة المستقلة لحقوق المواطن، على ضرورة القيام بمجموعة من الخطوات الأساسية لمواجهة حالة الاستغلال والغش التي يشهدها السوق، يأتي في مقدمتها حسب قوله، زيادة رفع وعي المواطنيين بخطورة الغش والاستغلال وآليات مواجهته، بالإضافة إلى ضرورة أن يكون هناك دور للجان المحلية، ولجان الأحياء لفرض مزيد من الرقابة، إلى جانب تفعيل دور وزارة الاقتصاد الوطني وبخاصة حماية المستهلك بشكل أكبر مما هو عليه الآن، من أجل الرقابة على عمليات البيع التي يشهدها السوق المحلي.

تعذر تطبيق القانون

في الأثناء قال مصدر حكومي، رفض الكشف عن هويته، إنه من الصعوبة بمكان فرض وتطبيق القانون في الوقت الراهن لاسيما فيما يخص عمليات الغش والاستغلال التي يعانيها المواطنين نتيجة الافتقاد للكثير من السلع الرئيسية، مما يوقعهم في فخ شراء الأغذية الفاسدة.

وقال المصدر الحكومي: "نحن ندرك أن المجاعة قد أوقعت الناس ضحايا لاستهلاك السلع المغشوشة لاسيما الأطفال، لكن هناك ملاحقة على مدار الساعة من قبل الاحتلال لأفراد الأجهزة الأمنية بغزة، وبالتالي هذا يعقد من عملية ضبط السوق وتعزيز الرقابة وفرض القانون"، مشيراً إلى أن الاحتلال يحاول من خلال استهداف الأجهزة الحكومية تقويض الأمن وإشاعة الفوضى والفلتان، غير آبهٍ بحياة المواطنين وصحتهم وسلامتهم.

ورفض المصدر الإفصاح عن الآليات التي يتبعونها في مراقبة حالة السوق، ومراجعة الأشخاص المتورطين في بيع السلع المغشوشة، مكتفيا بالقول إن هناك عمليات رقابة تجري بشكل غير مباشر، مشدداً في الوقت ذاته على ضرورة حذر المواطنين من استهلاك سلع مغشوشة أو منتهية الصلاحية، وأن عليهم التأكد من سلامة المنتج قبل شراءه، وكذلك على وجوب مشاركة الأهالي أطفالهم أثناء شرائهم الأطعمة من أجل ضمان سلامتها.

في المقابل، أوصت الطبيبة "وجيه"، ضرورة تحري سلامة المنتجات والأطعمة قبل تناولها بما فيها لحوم المعلبات والأغذية، وأهمية تحذير الأطفال من التعامل مع الحلوى التي تباع في السوق والتي لم تخضع للمواصفات الصحية في عملية الإنتاج لأنها تصنع منزلياً وتباع بدون تغليف.     

وعلى الرغم من حقيقة إدراكها للمجاعة التي أنهكت السكان، لكنها شددت على أهمية ألا يفرط المواطنون في التعامل مع الوصفات الذائعة كطهي أوراق التوت، أو الاكثار من تناول فول الصويا واعتماده بديلاً عن اللحوم، أو تناول الأطعمة غير معروفة المصدر، لاسيما البقوليات كحبوب العدس والفول والحمص والتي قد تكون تالفة، وتعرضت للرطوبة فأفقدتها سلامتها. 

 

(*) أسماء مستعارة