ليس بوسع الطفل كريم أحمد في ربيعه الرابع عشر، أن يتخلى عن مقعده الذي يتوسط بسطة لبيع قوارير المياه الباردة، في سوق الشيخ رضوان غرب مدينة غزة. وإن فعلها وتغيب يوماً واحداً فإنَّ ذلك سيجعل أسرته في حاجة لمد يدها طلباً للحاجة.
الطفل الذي اصفرت مقدمة شعره بفعل تواجده اليومي تحت حرارة الشمس، يقوم بتعبئة المياه يومياً في أكياس شفافة، ثم يقوم بتبريدها، ومن ثم يبيعها على هيئة مكعبات ثلجية للمواطنين لقاء (2 شيكل) لكل كيس. تعينه أمه الأرملة على ذلك وتنتظره أن يعود إليها كل مساء بفارغ الصبر.
تقول الأم إنها تخشى أن يعود إليها محمولاً على الأكتاف، في ظل استهداف الاحتلال الإسرائيلي لتجمعات سكانية بين حين وآخر ويذهب ضحيتها الكثير من الأطفال، لكنها لا تجد بداً من دفعه نحو السوق يومياً لأجل توفير ما يمكن أن يسد به رمق الأسرة في ظل معاناتها مع الفقر المدقع الناتج عن الحرب المستمرة للشهر التاسع على التوالي على قطاع غزة.
ويحرم الطفل كريم من التعليم للشهر التاسع على التوالي، حاله حال (620 ألفًا) طالب وطالبة، تعطلّوا قسريًا عن الدراسة وتأخروا عامًا دراسيًا كاملًا، (وفقاً لوزارة التربية والتعليم، 2024)، ولم يتضح بعد مصير العام القادم إذ تُنذر ظروف الحرب الإسرائيلية القائمة بعدم وجود أفق لوقف إطلاق النار.
أمام هذا الواقع، يجد الأطفال والفتية أنفسهم مرغمين على العمل، إما بدافع شخصي أو بإجبار أحد الوالدين، لأجل المساعدة في تحسين دخل أسرهم، التي تعاني تردياً في الواقع المعيشي نتيجة ظروف الحرب القائمة، وانعكاساتها على حالة السوق التي تشهد ارتفاعاً حاداً في أسعار السلع نتيجة الشح والاحتكار.
يشارك الطفل محمد أبو ريالة (*) والده في مهمة نقل المساعدات من مراكز التوزيع إلى مساكن المواطنين، ذلك عبر عربة يجرها حمار، يقودها أحياناً ويحمل صناديق المساعدات وأكياس الدقيق سعة (24 كيلوجرامًا) أحياناً أخرى، وهو أمر يفوق قدراته الجسمانية.
يستنفذ الطفل محمد (13 عاماً) طاقته أثناء رفع صندوق مساعدات زنة (19 كيلوجرامًا)، وبمجرد أن يضعها على ظهر العربة تتعالى ضرباته قلبه ويتصبب العرق من جنبيه. ويحوز بمقابل كل يوم عمل (ثماني ساعات بحد أدنى يوميا) على خمسة شواكل (دولار ونصف).
ولا يعي هذا الطفل ذو البشرة القمحية، عما إذا كان عمله هذا مخالف للقانون أم لا، وجل ما يعرفه أنه بحاجة ماسة لوقف الحرب والعودة إلى مقاعد الدراسة، لأجل الخلاص من هذه المشقة اليومية التي يضطر إليها بضغط من والده، بدعوى "عليك أن تكون رجلاً".
وعلى الرغم من تجريم قانون العمل الفلسطيني، تشغيل الأطفال دون سن 18 عاماً، إلا أن الغالبية من الأطفال يمارسونه مرغمين. وما يزيد الطين بلة أن واقع العمل الذي يعيشه الأطفال الآن في قطاع غزة يشكل تهديداً حقيقياً لحياتهم، لا سيما أن غالبيتهم يعملون في الأسواق والطرقات الرئيسية والأحياء، وجميعها أماكن شهدت استهداف وراح ضحيتها المئات من المدنيين خلال الحرب المستعرة منذ السابع من تشرين الأول الماضي.
وتعكس إحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية بغزة، بأن ما يزيد عن 71% من عدد ضحايا الحرب هم من الأطفال والنساء، حقيقة المخاطر المحدقة بحياة الأطفال وبخاصة أنهم يمارسون العمل، في بيئة غير آمنة مطلقاً.
وبصوتٍ ضعيف يعكس إجهاد صاحبه، يُنادي الطفل عامر الخضري (10 أعوام) على أنواع الحلوى "يدوية الصنع"، أمام بوابة مدرسة "المفتي الابتدائية المشتركة" في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة.
نزح الخضري من حي النفق، غرب مدينة غزة، إلى النصيرات رفقة أسرته قبل عدة أشهر تحت وطأة القصف والاستهداف، واضطرته ظروف أسرته المتردية قسريا للعمل في بيع الحلوى. وبدلاً من أن يصدح بصوته الجهوري على مسامع الطلبة كل صباح ضمن برنامج الإذاعة المدرسية، صار ينادي ليجتذب الزبائن النازحين داخل المدرسة.
وكان من المفترض أن يتأهل الطفل الخضري للصف الخامس الابتدائي، لولا أن الحرب حصرت فكره في نوعية الحلوى التي تستهوي الزبائن أكثر من غيرها، والكمية التي يحتاجها للبيع يومياً، بدلاً من التحضير للحصص المدرسية.
ويحظر قانون الطفل الفلسطيني في المادة (4)، تشغيل الأطفال أو استخدامهم أو تكليفهم بأية أعمال أو مهن خطرة أو غيرها من الأعمال والمهن التي تحددها وزارة العمل ومن شأنها إعاقة تعليمهم أو إلحاق الضرر بسلامتهم أو بصحتهم البدنية أو النفسية، بما في ذلك العمل لدى الأقارب من الدرجة الأولى.
كما جاءت المواد (93,94,95) من قانون العمل الفلسطيني تنصّ على أنّه يُحظر تشغيل الأطفال الأحداث دون سن الخامسة عشر، ويسمح بعمل الأطفال في سن (15-17) عامًا بشروط معينة، منها ألا تكون هذه الأعمال خطرة أو ليلية أو في أماكن نائية، وأن تكون ساعات العمل قصيرة، ويتوفر كشف طبي للأطفال كل 6 أشهر.
ويعاني الأطفال من هذه الظروف الخطرة في غزة دون تنبه وإدراك حقيقي لما يُلاقونه من انتهاك لطفولتهم، وفقًا لما قالته المختصة الاجتماعية ألفت المعصوابي، وأضافت "من المهم أن يعيش الأطفال أطول مرحلة مُمكِنة من الطفولة وألا يأخذوا دورًا يفوق أعمارهم".
وتابعت المعصوابي قولها "في مرحلة الطفولة يُفضل أن يعايش الطفل التجارب والاكتشاف والبناء وتكوين الخبرات وتأسيس الضمير والقيم المجتمعية بعيدًا عن أي بيئة قد تسلبه هذا الحق وتُسيء له جسديًا ونفسيًا ومعنويًا وفكريًا بالأعمال الشاقة والأماكن غير الملائمة فيبقى عُرضة للاستغلال على اختلاف أنواعه".
وتفترض المختصة أن "مَن لم يكن طفلاً حقًا فلن يكن رجلًا حقًا"، على اعتبار أن الطفل الذي يُحرم من طفولته ولا يكتسب فيها القيم المناسبة سيصبح شخصية غير سوية كزوج أو مواطن وسيتخذ من العنف طريقةً لحلّ مشكلاته وتسيير أمور حياته بعيدًا عن التفاوض والحوار، -على حدِ وصفها-.
(*) اسماء مستعارة
عمالة الأطفال غزة