تعتبر سرعة التطاير أو الاختفاء واحدة من خواص غاز الطهي، لكن هل انعكست هذه الخاصية في سلوك التعبئة أيضاً؟ سؤال يختلط بين الجد والهزل لكنه قد يبدو مشروع في ظلّ الشكوى المتزايدة لسكان قطاع غزة الذين يرزحون تحت وطأة الحرب لما يزيد عن 260 يوماً، ويعانون شحاً في مختلف السلع الأساسية بما فيها في الغاز.
ويشهد غاز الطهي كواحدة من السلع الأكثر احتياجاً بالنسبة للمدنيين في غزة، والذين يعاني ثلثهم من النزوح القسري بفعل الحرب، طلباً متزايداً، في وقت تثار فيه الكثير من الشكوك حول الآليات المتبعة من قبل الهيئات القائمة على توزيعه.
وتخضع هذه السلعة إلى سلوكين في التوزيع على المواطنين في كل من جنوب وشمال القطاع، الأولى والتي يعتمد عليها السكان والنازحون في جنوب القطاع وتقوم على تضمين أسمائهم ضمن على قائمة الانتظار لأجل الحصول على اسطوانة سعة 12 كيلو جراما، بمقابل (72 شيكلاً). فيما أن الثانية والتي تنتشر في شمال القطاع، فهي تقوم على شراء الغاز من السوق السوداء بمقابل 200 شيكل لكل كيلو جراما، دون وجود أي من أدوات الرقابة الحكومية على عمليات البيع.
لكن مؤخراً، أصبح غاز الطهي يباع في جنوب القطاع والذي يأوي ما يزيد عن مليون ونصف مواطن ضمن مساحة جغرافية محدودة جداً، في السوق السوداء، وبدأت تتلاشى عمليات التوزيع ضمن قوائم الاحتياج، الأمر الذي يغيب عدالة التوزيع ويثير الكثير من الشكوك حول الآليات المتبعة ومن هي الجهات المتنفذة التي تقف وراء ذلك؟
استنكار واستفهام
منذ بضعة أيام يطرح الصحفي الفلسطيني عامرو الطبش، أسئلة استنكارية واستفهامية في آن واحد، على مواقع التواصل الاجتماعي حول المتسبب في معاناة المواطنين الناتجة عن غياب عدالة توزيع غاز الطهي، ودواعي غياب الضوابط والمعايير الواضحة في اختيار مناطق التوزيع وآلياته على المستفيدين.
وقال الطبش على فيسبوك: "هل تعلم أن تسليم أنابيب الغاز تتم في ساعات متأخرة من الليل، وأن قلة قليلة من السكان يستفيدون منه، والحصص الأكبر تذهب إلى السوق السوداء؟"، محملاً كل من وزارة الاقتصاد الوطني وأصحاب محطات توزيع الوقود، وما أسماهم "مسؤولي المناطق"، مسؤولية ما يجري في ملف غاز الطهي.
وطبقاً لإفادات مجموعة كبيرة من المواطنين، فإن هناك ضبابية تسيطر على عمليات توزيع غاز الطهي في جنوب القطاع على وجه الخصوص، إذ إن فئة كبيرة منهم قالوا إن أسئلتهم حول الآلية المتبعة في التوزيع تصطدم بإجابات غير منطقية.
وقالت اعتدال حسين وهي نازحة من محافظة رفح إلى الغرب من مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، إنها تشعر بالتيه، لأن الموزعين لا يفصحون عن آلياتهم وبخاصة أنهم يتذرعون أحيانا بأن الغاز فقط للمقيمين وليس للنازحين، وفي أحيان أخرى يقولون إن قوائم الانتظار طويلة ولم يحن بعد موعد الحصول على الاسطوانة.
وأضافت حسين وهي في الرابعة والخمسين من العمر، أن هذه السلوكيات الضبابية، غايتها دفع الناس للجوء إلى شراء الغاز من السوق السوداء بأسعار باهظة جداً، حيث يصل سعر الأسطوانة بنحو ألف شيكل (270 دولاراً)، وهي قيمة تعجز عن دفعها، مما اضطرها إلى اللجوء إلى إيقاد النار بواسطة الحطب للاستعاضة عن الغاز على الرغم من الطقس اللهاب.
ويعاني المواطنون من انعدام كامل في فرص الدخل بفعل الحرب والغلاء الفادح الذي تشهده الأسواق المحلية، الأمر الذي يتسبب في حرمانهم من الحصول على السلع الأشد احتياجا بما فيها الخضار واللحوم، نتيجة محدودية تدفق السلع بعد إحكام الاحتلال الإسرائيلي إغلاق المعابر مع قطاع غزة.
وقال المواطن سائد علي (*) في الرابع والأربعين من عمره، "فقط المواطنين من عظم الرقبة، هم الذين يظفرون بأسطوانة غاز، أما الآخرين فلهم الله"، في إشارة إلى أن وجود واسطة ومحسوبية في عمليات التوزيع، رفض التعبير الجلي عنها.
وأوضح علي وهو موظف في قطاع التعليم ويتقاضى نصف راتب، أن ما اسمهم "تجار الحروب" أثقلوا كاهل المواطنين الذين يعانون الأمرين نتيجة الحرب المستمرة منذ تسعة أشهر، بالاستغلال والخداع والغش في بيع السلع الأساسية، معتبراً أنه في ظل غياب أدوات الرقابة الفاعلة، وعدم وجود إجراءات عقابية رادعة على أرض الواقع، عاملان أساسيان "وراء تنامي ثروات تجار الحروب"، حسبما قال.
استغلال وتلاعب
ويتعارض هذا الواقع مع ما نص عليه قانون حماية المستهلك الفلسطيني رقم (21) لسنة 2005- والذي يهدف إلى حماية وضمان حقوق المستهلك بما يكفل له عدم التعرض لأي غبن أو خسائر، وتوفير السلع والخدمات ومنع الاستغلال والتلاعب في الأسعار.
ويحظر القانون في المادة (2) منه، على كل مزودي الخدمات، بيع سلعة أو تقديم خدمة بسعر أو بربح يزيد عن السعر المعلن عنه.
من جهته قال منسق وحدة الشكاوى في الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن، المحامي بكر التركماني، إن الحرب الدائرة في قطاع غزة قد أثرت في كافة مناحي الحياة، بما في ذلك أداء الجهات الرسمية وقدرتها على القيام بدورها، والتي منها الدور الرقابي على السلع والخدمات المقدمة للمواطنين تحت الحرب.
وأضاف التركماني، أن هناك استهدافاً مباشراً وغير مباشر من قبل الاحتلال، لطواقم المساعدات سواء الدولية أو الأهلية، وكذلك لرجال الشرطة المدنيين الذين يؤمنون دخول المساعدات، بالإضافة إلى أفراد الشرطة الذين يقومون بواجبهم في فرض الأمن ومنع الاعتداءات والسرقة وغيرها.
وأوضح أن هذه الممارسات التي يقوم بها الاحتلال، أثرت بشكل جلي على الدور الرقابي، ومع ذلك أشار إلى ضرورة وجود عملية رقابية تمنع من استغلال بعض التجار والباعة لحاجات الناس من السلع الأساسية، بما في ذلك غاز الطهي، وبخاصة أن جزءا كبيرا من المواطنيين أصبحوا يعتمدون في ظل شح الغاز على الحطب في طهي الطعام.
وشدد محامي الهيئة المستقلة لحقوق المواطن، على ضرورة القيام بمجموعة من الخطوات الأساسية لمواجهة حالة الاستغلال، قال إنه يأتي في مقدمتها، زيادة رفع وعي المواطنيين بخطورة التلاعب بالأسعار والاحتكار والاستغلال وآليات مواجهته، بالإضافة إلى ضرورة أن يكون هناك دور للجان المحلية، ولجان الأحياء لفرض مزيد من الرقابة، إلى جانب تفعيل دور وزارة الاقتصاد الوطني بشكل أكبر مما هو عليه الآن، من أجل الرقابة على عمليات الاستغلال التي يشهدها السوق المحلي.
في الأثناء حاولنا التواصل مع أصحاب محطات وقود لأجل الوقوف على الآلية المتبعة في توزيع غاز الطهي وعن الشكاوى من وجود واسطة ومحسوبية في التوزيع، لكننا لم نلق إجابة، حيث رفض عدد منهم الحديث عبر وسائل الإعلام.
الحال ذاته تكرر مع حماية المستهلك، وهي الجهة الحكومية المسؤولة بشكل مباشر عن ضبط حالة السوق وضمان عدم التلاعب في الأسعار أو ممارسة الاحتكار والاستغلال، غير أننا أيضاً لم نستطيع الوصول إلى إفادة واضحة حول الإجراءات المتبعة لضبط الحالة، خشية من ملاحقة الاحتلال.
وفي ظل حالة الضبابية أو "الفوضى" إن جاز تسميتها، والتي تسيطر على السوق المحلي تحت الحرب، وبخاصة مع غياب أدوات الرقابة النشطة والفاعلة، فإنَّ المواطنين سيدفعون الثمن مرتين: ثمن ويلات الحرب والنزوح وتبعاتها على المستوى الاقتصادي من فقر وعوز، وثمن الاستغلال والاحتكار.
(*) أسماء مستعارة