الدراما المصرية ملاذاً في ليال حرب غزة

الدراما المصرية ملاذاً في ليال حرب غزة

لم يجد الشاب الفلسطيني عدنان عمر (33 عاماً) الذي تعطل عن عمله في إحدى الشركات المحلية بفعل الحرب على قطاع غزة المستمرة منذ تسعة أشهر، من خيار أخر غير متابعة الدراما المصرية كمحاولة للتحايل على الواقع الذي يعيشه منذ ما يزيد عن 260 يوماً من عمر الحرب، وذلك بعدما نفذ صبره على احتمال ظروف حياة النزوح وغياب أفق وقف الحرب.

الشاب عمر متزوج ولديه طفلين أكبرهما عمره سبع سنوات، يقيم في مسكن أقاربه رفقة أسرته في حي الصبرة وسط مدينة غزة، وقد أنهكته الحرب التي سحقت مسكنه، وقادت في نهاية المطاف إلى التجويع بفعل الحرمان من إدخال المساعدات إلى شمال غزة.

وقال إنه حزين لأنه لم يعد هناك أملاً يلوح في الأفق عن قرب انتهاء الحرب، وأن صحته النفسية أضحت في أسوء حالاتها لاسيما بعد فقدانه مصدر دخله الوحيد. وعليه قرر الشاب عمر أن يقوم باقتناء حلقات المسلسلات المصرية كي يستثمر وقته وأسرته خلال ساعات الليل، بحضورها على الرغم من أنه لم يكن سابقاً يهتم بمتابعة أي من الأعمال الدرامية.

مصدر راحة

في ظل الظروف القاسية التي يعيشها الفلسطينيون في قطاع غزة تحت وطأة الحرب المستمرة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، يلجأ الكثير منهم إلى الفنون المختلفة كمصدر للراحة والتخفيف من الأعباء النفسية التي خلفتها الحرب.

عدنان ليس وحده في هذا الاتجاه، فقد اتخذ أشخاص آخرون من فئات عمرية مختلفة، من متابعة المسلسلات مساحة للهروب من الواقع المتردي الذي يعانون منه. ومنهم ولاء ماجد (21 عاماً) والتي قررت أن تجد متنفساً في متابعة المسلسلات المصرية، حيث اشترت حلقات خمس مسلسلات وقضت أوقات الليل الذي يقطعه صوت القذائف والطائرات المسيرة، مع أسرتها في متابعة أحداث المسلسلات، مما ساعدها في التخفيف من حدة التوتر والضغوط النفسية، كما قالت.

وأضافت الفتاة التي تعطل تعليمها الجامعي بفعل الحرب، في الواقع نحن لسنا بخير مطلقاً والواقع المحيط بائس وباعث على الاكتئاب خصوصا أنه ليس هناك حلول جدية لإنهاء الحرب أو قرب التوصل إلى صفقة تبادل، لذلك وكي لا نموت قهراً وننجو بأنفسنا قليلاً، نحاول متابعة بعض المسلسلات، واعتقد أننا نمارس حقنا في الحياة مهما كانت الظروف".

وفي الواقع اتخذ شباب كثر ممن فقدوا أعمالهم نتيجة الظروف الراهنة، في قطاع غزة، من بيع المسلسلات والأفلام مصدراً للرزق. حيث يقوم هؤلاء بنقلها للزبائن عبر الفلاش الممومري، ويحصلون على سبعة شواكل مقابل كل مسلسل. لكن العملية ليست بهذه السهولة؛ إذ يتطلب حضور المسلسلات توفر جهاز لابتوب ذو بطارية جيدة، حيث يقوم السكان المحرومون من الكهرباء منذ بدء الحرب في السابع من تشرين الأول الماضي، بشحن الأجهزة الإلكترونية بمقابل مادي (شيكل واحد لكل هاتف أو حاسوب).

يوضح محمد المدهون (24 عاماً)، الذي يقوم على شحن الأجهزة عبر ألواح الطاقة الشمسية المتهالكة، ويبيع الأفلام والمسلسلات بأجور زهيدة للناجين من الحرب، أنه لم يعد هناك خيارات أمام الشباب الذين فقدوا أعمالهم، قائلاً: "في ظل ظروف المجاعة التي نعيشها في شمال غزة، والغلاء الفادح الذي تشهده السلع، علينا أن نبتكر أعمالاً تدر دخلاً بأي طريقة كانت، لذا اهتديت إلى بيع المسلسلات والأفلام".

وعن اهتمامات الزبائن بنوعية الأعمال الفنية التي يبحثون عنها، أشار المدهون إلى أن الغالبية يفضلون المسلسلات المصرية بوجه خاص، فيما أن فئة قليلة تطلب أفلام الرعب والأكشن، متهكماً على الواقع بالقول: "ألا يكفي الرعب الذي نعيش فيه الآن تحت نيران الحرب؟!".

يحاربون استنزاف الوقت وحرق الأعصاب

ويعتبر الفن بمختلف أشكاله وكذلك القراءة والرياضة، أوجه مختلفة يلجأ إليها العديد من الشباب، كمساحة لإشغال أنفسهم في هذه الظروف التي تلقي بظلال سلبية على المستوى النفسي، حيث يتبعون شغفهم في ظل معاناتهم المستمرة مع الحر والحرب، بدلا من استنزاف الوقت في حرق الأعصاب ومتابعة الأخبار، على أهميتها.

من جهته، اعتبر الأخصائي النفسي محمد مهنا، إن الحرب والنزاعات تترك أثراً نفسياً كبيراً على الأفراد، وخاصة في مناطق مثل قطاع غزة حيث يعاني السكان من القصف المستمر وانعدام الاستقرار والعيش في خيام لا تقي حر الشمس ولا برد الشتاء، وبالتالي فإن الفنون في هذه الظروف تلعب دوراً حيوياً في تقديم الراحة النفسية والتخفيف من الضغوط، حسب رأيه.

وقال مهنا، الأفلام والمسلسلات المصرية، بما تحمله من قصص مشوقة وأحداث مثيرة، تشكل مساحة لبعض الناس وبخاصة الشباب من أجل تجاوز محنتهم النفسية التي يحاولون تخطيها بمختلف الوسائل بما فيها الفنون والموسيقى وكذلك الرسم والقراءة والرياضة وغيرها من الاهتمامات.

جذور العلاقة بين الفلسطينيين والفن المصري

ويحظى الفن المصري، سواء كان سينما، دراما أو مسرح، بمكانة خاصة في قلوب الفلسطينيين. هذا الارتباط العميق يمتد لعقود من الزمن، ويعكس عمق العلاقات الثقافية والاجتماعية بين الشعبين الفلسطيني والمصري.

ترجع جذور هذه العلاقة إلى فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، عندما بدأ التلفاز الأبيض والأسود بالانتشار في بيوت الفلسطينيين. الأفلام المصرية القديمة، التي كانت تبث بانتظام، شكلت جزءاً كبيراً من الثقافة البصرية لدى الفلسطينيين. أسماء مثل إسماعيل ياسين، فؤاد المهندس، نيللي وغيرهم، أصبحت مألوفة وحاضرة في الذاكرة الجمعية للفلسطينيين.

وشكلت السينما المصرية، بمواضيعها المتنوعة وأسلوبها المميز، نجحت في نقل الواقع المصري بكافة تفاصيله إلى البيوت الفلسطينية. الأفلام الرومانسية، الكوميدية، الحربية، والاجتماعية، كلها وجدت جمهوراً واسعاً في فلسطين. الأفلام التي تتناول القضايا الاجتماعية والثقافية المصرية، مثل "الجزيرة" و"الممر"، تلقى اهتماماً خاصاً لأنها تعكس بعض التجارب والمشاعر المشتركة بين الشعبين.

ويعتمد الكثير من الشباب الفلسطينيين في قطاع غزة، في استخدام مصطلحات مقتبسة من السينما أو المسلسلات التي تحظى بأعلى نسبة مشاهدة، في بث النكات وإثارة الضحك والتهكم على مواقف معينة فيما بينهم. 

وحتى وقت طويل استحوذ الفنان أحمد حلمي مثلاً على اهتمام الشباب الغزيين بوصفه واحدا من أعمدة الكوميديا المصرية، وكذلك الممثل ومحمد سعد (اللمبي) والراحل حسن حسني، والقائمة تطول. غير أن هذا الاهتمام كان متذبذباً طبقاً للوضع السياسي والاجتماعي في الأراضي الفلسطينية. فكلما ازدادت وتيرة العنف كلما تصاعد معها الاهتمام بالسينما الحربية والعسكرية وأفلام الأكشن، وبالتالي يسطع نجم أبطالها، كالفنان أحمد عز في فيلم "الممر"، وكذلك شريف منير في فيلم "ولاد العام"، وغيرها الكثير من الأعمال التي تنصب بالتركيز على الصراع مع الاحتلال.  

في المقابل، حظي دور الفنان أحمد السقا في فيلم الجزيرة باهتمام كبير على مستوى المشاهدة في الأراضي الفلسطينية، لما يحمله من مفاهيم اجتماعية تتقاطع بين الكثير من الشعوب العربية التي لا تزال تسيطر عليها ثقافة الأخذ بالثأر، وأخذ الحق باليد، على الرغم من أن ذلك يتناقض مع القانون.

في نهاية المطاف، يعد ارتباط الفلسطينيين بالفن المصري شهادة على عمق الروابط الثقافية والاجتماعية بين الشعبين. السينما والدراما المصرية ليست مجرد وسائل ترفيه، بل هي جزء من الذاكرة الجماعية والثقافة الفلسطينية. في ظل الحروب والنزاعات، كما أنها تعكس قدرة السكان المدنيين في غزة وبخاصة الشباب، على اثبات جدارتهم بالحياة والحق في العيش الكريم، على الرغم من الخراب الذي يسد الأفق.