بصوتٍ ضعيف فيه "بحة" التعب والإجهاد يُنادي الصغير عامر الخضري "10 سنوات" على أنواع الحلوى "يدوية الصنع" فيما هو يجلس أمام بوابة مدرسة "المفتي الابتدائية المشتركة" في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، التي نزح إليها من بيته في شارع النفق بغزة قبل عدّة شهور نزوحًا قسريًا اضطرته لها ظروف الحرب الإسرائيلية.
تلك المدرسة التي كانت بالنسبة لعامر مسرح التنافس والاجتهاد والدراسة والأصدقاء، لطالما دخل بوابتها راكضًا نحو الإذاعة المدرسية التي اُشتهر فيها بين أقرانه، اليوم يجلس على بوابة مدرسة مغايرة بائع "بسطة"، يصدح بذات الصوت منادٍ ليجتذب الزبائن، فيما أصبحت المدرسة مكان نزوحه وتشرّده وأبعد ما يكون عن أحلام الطالب المجتهد.
يرتدي الصغير قبعة حمراء ذهب لونها بفعل حرارة الشمس، لكنها لم تُخفِ جمال عينيه الخضراوين، ويُبدي حنكة هاربة من زمن ما قبل الحرب تظهر في إقبال الزبائن عليه. غير أنّ ذلك لم يُخفِ تحسرّه على خسران عامٍ دراسيّ من عمره كان يُفترض أن يتأهل بعده للصف الخامس الابتدائي.
إجازة مفتوحة
ليس عامر وحده، بل مثله أيضًا (620 ألفًا) طالب وطالبة (وزارة التربية والتعليم، 2024)، تعطلّوا قسريًا عن الدراسة وتأخروا عامًا دراسيًا كاملًا فيما لم يتضح بعد مصير العام القادم إذ تُنذر ظروف الحرب الإسرائيلية القائمة بعدم وجود انفراجة قريبة.
هذا الأمر شكَّل قلق كبير لدى الأمهات لاسيما مع مرور عام دراسي كامل على أبنائهم دون أن يمر، إذ لم يَحتفل الأطفال بـ "انتهاءِ العام الدراسيّ"، لم يَحملوا شهاداتِ النجاح، ولم يعتلِ المتميزون منهم منصات التكريم، لم يتحضروا لإجازة الصيف وألعاب مخيماتها الجميلة، حيث أخذتهم الحرب في إجازةٍ مفتوحة لم يُعرَف مداها بعد.
وفي الوقت الذي يُواجه فيه هؤلاء الأطفال مصيرًا مجهولاً فيما يتعلق بمستقبل حياتهم لا سيما الدراسي منه، قتلت "إسرائيل" 15 ألف طفل غالبيتهم من طلبة المدارس ورياض الأطفال، وفق بيانٍ صدر عن وزارة التربية الفلسطينية مطلع يونيو الجاري.
أما ما يزيد الأمور تعقيدًا هو تدمير عددٍ مهول من المدارس والمنشآت التعليمية (8 من كل 10 مدارس)، إذ تعرضت 286 مدرسة حكومية و65 تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" للقصف والتدمير في قطاع غزة، كما استخدم عدد كبير منها قُدِّر بـ 133 مدرسة كمراكز إيواء لمئات الآلاف من النازحين.
أمام هذا الواقع المتردي قالت رئيسة لجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة آن سكيلتون، إنَّ "إسرائيل" تنتهك حقوق الأطفال في قطاع غزة بشكلٍ خطير، وعلى مستوى نادر لم يُشاهد في التاريخ الحديث.
إبادة تعليمية
جاء ذلك في ظلّ تحذيرات خبراء أممين من "إبادةٍ تعليمية"، تستهدف تدمير نظام التعليم الفلسطيني بشكلٍ شامل ومتعمد وممنهج، وهو ما يتسبب بتأثيرات مُدمرة وطويلة الأمد على حقوق السكان الأساسية في التعلم.
يفرض هذا الواقع تساؤلًا ماهيته: "هل يحفظ القانون الدولي للأطفال حقهم في التعلّم وحمايتهم من إبادة تعليمية ممكنة جرّاء الحروب والنزاعات؟
وفي الإجابة عنه، نجد أنَّ المادة (13) من العهد الدولي الخاصّ بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كفلّت الحق في التعليم، جاء فيها، "تقرّ الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل فرد في التربية والتعليم. وهي متفقة على وجوب توجيه التربية والتعليم إلى الإنماء الكامل للشخصية الإنسانية والحس بكرامتها، وإلى توطيد احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية".
وقد تم تبني القرار الخاص بالحق في التعليم، خلال الدورة العادية الثالثة والخمسين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في المدة ما بين 19 يونيو و14 يوليو للعام 2023.
وقال المحامي الفلسطيني والناشط الحقوقي يوسف الحداد، إنّ الاحتلال الإسرائيلي باستهدافه للمؤسسات التعليمية دون مراعاة المبادئ الأساسية الخاصة بالتمييز والتناسب والضرورة العسكرية قد قام بمصادرة حق طلبة قطاع غزة في التعليم.
كما شدّد على أنّ إسرائيل انتهكت حق الطلبة في الحصول على التعليم بما يُشكِّل انتهاكًا صارخًا لأحكام القانون الدولي الذي كفل الحق في التعليم في جميع الأوقات بما في ذلك أثناء النزاع المسلح أو تحت الاحتلال العسكري أو في أوضاع الطوارئ.
ووفقا للحداد فإن إسرائيل عمدت تجهيل الطلبة وضرب كافة القوانين والمواثيق الدولية بعرض الحائط، من أجل ضمان بقائها، مشيراً إلى أنّ الاحتلال يعتبر نفسه فوق القوانين ولا يجد أنَّ هناك قوة تستطيع إيقافه خاصة بعد تقديم الولايات المتحدة وحلفائها الدعم الكامل له.
ونبّه المحامي الحداد إلى أنَّ ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي تجاه المنظومة التعليمية في قطاع غزة وطلبة المرحلة الأساسية هي في عُرف القانون الدولي "جرائم حرب" تُدرج تحت جرائم الإبادة الثقافية والتعليمية، والتي ذُكِر من تعريفاتها في البند (أ)، "أي إجراء يكون هدفه أو يترتب عليه حرمانهم من سلامتهم كشعوب مميزة، أو من قيمتهم الثقافية، أو هويتهم الاثنية".
ومن المتوقع أن يكون هناك تدّاعيات سلبية كبيرة على سير العملية التعليمية في الأعوام المقبلة خاصّة بعدما خسر جيل كامل من طلبة قطاع غزة عامًا دراسيًّا من حياتهم تحت وطأة الحرب؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى آثار خطيرة على تحصيلهم العلمي وإدراكهم الفكري لاسيما طلبة المرحلة الأساسية منهم.
ناجون ولكن..
هؤلاء الأطفال الذين يحفظ لهم القانون الدولي حقهم الأساسي في الحماية والتعليم، مرّوا بأحداثٍ مروّعة جرّاء الحرب، منهم الطفل يامن أبو جبة "9 سنوات" الذي ارتعد على مرأى ومسمع الكثير من الانفجارات، رأى جنودًا مدججين بالسلاح، اضطر للنزوح مرات كثيرة، فاقت الـ "15 مرة"، مشى فوق جثثِ جيرانه، وعلى إثرها عانى حالة صحيّة مريرة.
تقول والدته، "كان يُحب معلموه وزملاؤه جدًا، كانت تشتكي لي معلمته من سرعة بديهته؛ دائمًا يسبقها في شرح الدرس ويقدم المعلومات، أما اليوم يعاني من ضعف تركيز حادّ، دائمًا شارد الذهن، يرتعد من صوت القصف ويخاف جدًا من مشهد الجنود، وحوادث قتل الأطفال".
وتُعدّ هذه الأعراض التي مرّ بها الطفل أبو جبة من أهم الآثار النفسية الناتجة عن ظروف الحرب، وفقًا للمختصة النفسية فلسطين ياسين، التي أشارت إلى أنّ الآثار تشمل التوتر والقلق الدائم، إضافة إلى الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة كالكوابيس والتوتر العصبي والسلوك العدواني، إلى جانب المعاناة من مشاكل في النوم والعزلة الاجتماعية.
عانت مريم البنا (8 سنوات) أيضًا من أعراضٍ مُشابهة إذ كانت في بداية العام الدراسي الذي اشتعل فيه فتيل الحرب، في الصف الدراسي الأول، تقول والدتها، "مريم متفوقة ولديها طاقة إيجابية كبيرة للدراسة وحب المدرسة، مرّ الشهر كاملًا لم أوقظها يومًا واحدًا للمدرسة، كانت يوميًا تستيقظ قبلي وتحضر ملابسها وحقيبتها وحاجياتها بنفسها".
في الحرب، عايشت الطفلة مريم تجارب قاسية، إذ نجت من تحت الأنقاض هي وعائلتها من موتٍ محتّم بعد قصف منزلٌ بجانبهم، فيما فقدت مريم ابنة عمها وصديقتها وأُصيبَ إخوتها، تقول والدتها، "في تلك الأوقات دخلت مريم في حالةٍ صعبة، وكانت تخاف جدًا من النوم في الليل لئلا يقع سقف البيت والحجارة والرمل عليها".
وعلى نحوٍ آخر، فإنَّ هناك العديد من الأطفال تغيّر نظام حياتهم تمامًا من طلبة مجتهدين إلى كادحين، وهو تمامًا ما حصل مع الطفل عاصم أبو حمدة، ومئات الآلاف من أطفال غزة.
تصف والدة عاصم الضرر الواقع على ابنها بقولها: "انحدر نظام حياته من الشغف والحماس إلى قمة الغلب، فأصبح بعد صلاة الفجر ينزل إلى الشارع يبحث عن الماء أو يصطف في طابور الخبز، وقد كان بعد صلاة الفجر يحفظ صفحة من كتاب الله ثم يجهز نفسه للذهاب إلى المدرسة وأمسى يجمع الكرتون والأخشاب لنشعل نار الطهي بدل الذهاب إلى نادي الكراتيه!".
مجموعة تأثيرات
وقالت المختصة النفسية ياسين، إنّ تدّاعيات الحرب الإسرائيلية على فئة الأطفال الطلبة في قطاع غزة خطيرة، لا سيما التأثيرات النفسية والسلوكية والفكرية، ومنها زيادة العنف والسلوك العدواني، وتشوّه الإدراك والفكر، إضافة إلى انعدام الثقة بالنفس والآخرين.
أما التأثيرات الأكاديمية، فقد أوضح المستشار التربوي أشرف كحيل أنَّ الأضرار المستقبلية على الأطفال من طلبة قطاع غزة فيما يتعلق بالتعليم ستمتد من الانقطاع عن التعليم وتبعاته إلى تدّاعيات أكبر، منها التأخر في النمو المعرفي، قلّة التحصيل الدراسي، التغيّب والتسرّب المدرسي، وزيادة معدّلات الأمية بشقيها الأبجدية والمعرفية.
وإلى جانب الصعوبات في التعلم، أكد كحيل أن هناك تأثيرات اجتماعية واقتصادية، منها ضعف المهارات الحياتية والاجتماعية، وصعوبات في التواصل الاجتماعي؛ مما يؤثر على علاقاتهم الشخصية والمهنية في المستقبل.
وأكّد المستشار التربوي، أنَّ الحرب الدائرة على قطاع غزة تجاوزت كل الحدود، وفيما يتعلق بالعام الدراسي فالأمور ضبابية ولا يوجد خططًا واضحة لاستكماله؛ إذ لا تتوفر أيَّة معلومات حول العام القادم، أما بخصوص الواقع التربوي والأكاديمي فهو منهار تمامًا. وقال كحيل: "لا يمكن تعويض الفاقد التعليمي لدى الطلبة، بل إنَّ الحديث عنه في الوقت الحالي مُبكر جدًا".
وأضاف: "أطفال غزة عاشوا ظروفًا لا تُحتمل، لقد اختلف نمط حياتهم وأصبحوا يعانون من كمية ضرر فادحة، هناك أثر نفسي عميق وخلل اجتماعي واقتصادي، إلى جانب حدوث تشوّه فكري لدى الأطفال؛ لذلك هم بحاجة لعلاج نفسي وتقويم سلوك تربوي عالٍ يسبق المباشرة في التعليم".