سحقت الحرب الدائرة في قطاع غزة عمل محطات الوقود بشكل كامل شكلاً ومضموناً، فمن جهة تسببت الحمم النارية بالكثير من الدمار لتلك المحطات وأخرجت معظمها عن الخدمة، ومن جهة ثانية نفذ مخزونها من الوقود تماماً.
أمام هذا الواقع، وجد السائقون ضالتهم في زيت القلي، حيث أصبح يستخدم بديلاً عن الوقود للمركبات التي تعمل محركاتها بالسولار. ويعد هذا الاستخدام سلاحاً ذا حدين: فهو من ناحية يعتبر شكل من أشكال تجاوز الأزمة، ومن ناحية ثانية يُشكِّل خطراً على صحة السكان نتيجة الانبعاثات الدخانية الخانقة، لاسيما أنهم يعانون (أي الناس) من الأصل من انبعاثات الحرب ومخلفاتها العسكرية.
وعلى الرغم من وعي السائقين لحقيقة هذا الخطر، لكنه يشكل بديلاً في نظرهم لا يمكن الاستغناء عنه، وبخاصة بعدما نفذت البدائل، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي بمنع إدخال الوقود للشهر السابع على التوالي من عمر الحرب.
حسن قاسم (29 عاماً) يعمل سائق شاحنة نقل مياه محلاة، في شمال قطاع غزة، قال إنه يضطر يومياً لشراء صندوق من الزيت النباتي يحوي ما لا يقل عن 12 لتراً، يقوم بتعبئتها في خزان الوقود، وذلك في ظل عجزه عن توفير السولار.
وأكد قاسم الذي يجوب شوارع حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة لتعبئة خزانات وجالونات مياه الشرب للسكان الذي يعانون من انقطاع مستمر للمياه، أنه لا يملك القدرة الشرائية التي تساعده على تشغيل الشاحنة بالسولار وبخاصة بعدما تضاعف ثمنه ثمانية أضعاف.
وتضاعفت أسعار الوقود على نحو غير مسبوق في السوق السوداء التي انتشرت بفعل الحرب التي اندلعت في السابع من تشرين الأول الماضي، حيث تقدر تكلفة لتر البنزين بـ(110 شواكل)، فيما أن لتر السولار (45 شيكلا)، أما لتر غاز الطهي فقيمته (120 شيكلا).
ويفعل رائد دردونة (33 عاماً)، وهو سائق أجرة، الشيء ذاته، حيث يقوم يومياً بتزويد مركبته بعشرة لترات من الزيت النباتي بقيمة 100 شيكل (لتر الزيت بـ 10 شواكل)، وهي قيمة من منظوره مقبولة نسبياً، فيما أنه كان سيطر لدفع مبلغ 450 شيكلاً، لو قام بتعبئتها بالسولار.
وقال دردونة "صحيح إن السولار سيحافظ على حيوية المحرك ويضمن ديمومته على عكس الزيت النباتي، لكن في نهاية المطاف أنا لا أستطيع تحمل هذه التكلفة، نظراً للضائقة المالية التي أعانيها أنا وجميع السكان هنا بفعل الحرب وانعدام الدخل".
وأكد السائق وعيه الكامل بحقيقة الانعكاسات الخطرة التي يتسبب بها الزيت النباتي على صحة السكان، نتيجة احتراقه والانبعاثات التي يخلفها في الطرقات والتي قد تثير حساسية لدى أصحاب الأمراض المزمنة، لكنه قال "هذه حرب شعواء لم تبقي شيء على حاله، لذا؛ نحاول البحث عن البدائل، وفي نهاية المطاف قد لا تكون انبعاثات الزيت النباتي أخطر من انعكاسات المتفجرات التي طالت كافة أحياء القطاع وشوارعه!".
في المقابل، للتحايل على الأزمة قام سمير مصباح (31 عاماً)، وهو تاجر وقود إلى خلط مخزون السولار لديه بكميات موازية من الزيت المستخدم في إصلاح المحركات والماكينات، بداعي زيادة الكمية.
قال مصباح "أقوم شراء الزيت بقيمة عشرة شواكل، ثم أقوم بخلطه مع لتر من السولار الذي تتراوح قيمته بـ 45 شيكلاً، وأبيع اللتر المخلوط بقيمة 35 شيكلاً"، معتبراً ذلك خياراً أمثل أمام الزبائن بديلاً عن الزيت النباتي الذي يتسبب للمركبات بالكثير من الأعطال.
وبصرف النظر عن السائل المحرك للمركبات سواء كان وقودا أو زيتا نباتيا، فإن تكلفة النقل تضاعفت على نحو غير مسبوق حيث تبلغ أجرة الانتقال من مكان لآخر داخل مدينة غزة بـ(10 شواكل)، الأمر الذي يثقل كاهل السكان الذين يعاني غالبيتهم من الفقر المدقع بفعل الحرب.
وإزاء ذلك وجد الكثير من الركاب ضالتهم في عربات الكارو التي تجرها الحمير والأحصنة، للانتقال من مكان إلى أخر، فهي أقل تكلفةً من أجرة المواصلات، على الرغم من أن كثيراً من الناس لا يروقهم استخدامها في التنقل فهي من منظورهم تحط من القيمة الإنسانية، فيما أن آخرين يرون أن الحرب أجبرت الناس على ممارسة الكثير من الطقوس التي تحط من قدرهم كاستخدام الحطب بديلا عن غاز الطهي، وتناول أعلاف الحيوانات بديلا عن الطحين والعيش في الخيام بديلاً عن المساكن، وغيرها الكثير.
من جهة ثانية، ورغم المحاذير الصحية من مخاطر انبعاثات الزيت النباتي المستخدم كبديل عن الوقود وتأثيرها على صحة السكان، إلا أن السائقين يقولون إنه لا خيار أخر. في الوقت الذي قال فيه الطبيب الفلسطيني إحسان الشاعر إن عوادم السيارات التي باتت تعمل بالزيت النباتي تسبب العديد من الأمراض وخصوصا الصدرية.
وأكد الشاعر وهو طبيب أمراض صدرية، أن عشرات الحالات تصل يومياً إلى المستشفيات تعاني من ضيق في التنفس وإعياء وارتفاع في درجات الحرارة نتيجة استنشاق هذه العوادم فضلاً عن الأدخنة والغازات الناتجة عن القذائف.