أصيب المواطن الفلسطيني محمد أحمد (54 عاماً) في ساقه اليمنى إصابة متوسطة، على أثر استهداف بناية مجاورة لمسكنه الواقع في حي الشيخ رضوان شمال غرب مدينة غزة، في الثاني عشر من أكتوبر/ تشرين أول الماضي (أي بعد إعلان الحرب الإسرائيلية على غزة بستة أيام).
واجه المواطن أحمد الذي يعاني من مرض السكري، تحدياً يتعلق بالرعاية الصحية الخاصة التي تتطلبها إصابته في الوقت الذي كانت تعاني فيه مشافي مدينة غزة وشمالها أزمة خانقة تفوق قدرتها على تقديم الرعاية الصحية على ضوء تدفق المئات من الشهداء والجرحى، وهو ما أعجزها عن التعامل مع الإصابات المتوسطة.
وفي الوقت الذي كانت تزداد فيه حالة المواطن "أحمد" الصحية تدهوراً بما يهدد بتر ساقه، كانت تزداد وتيرة التهديدات الإسرائيلية بإخلاء الأحياء السكنية في مدينة غزة وشمالها تمهيداً لشن عملية عسكرية برية. لذا؛ أثر المواطن أحمد النزوح صوب المحافظة الوسطى استجابة للتهديدات من جهة، ومحاولة البحث عن علاج مناسبٍ، من جهة ثانية.
وإذا كانت الإصابة قد أجبرت المواطن أحمد على النزوح من مسكنه، فقد فعلت المنشورات الورقية التي أسقطتها الطائرات الإسرائيلية ما هو أكثر، إذ أجبرت المخاوف الناتجة عن العبارات المستخدمة في تلك المنشورات، الآلاف من سكان محافظتي غزة والشمال النزوح قسراً إلى جنوب وادي غزة وفق التوجيهات، بدعوى أنها مناطق أمنة.
ومع ذلك، لم ينج لا المواطن "أحمد" ولا المئات من النازحين الآخرين من الاستهداف في محطات أخرى في وسط وجنوب القطاع، طبقاً للعشرات من حوادث الاستهداف التي جرى توثيقها إعلامياً وقانونياً.
يعتبر تهجير السكان المدنيين في قطاع غزة من أبرز الملامح التي ميزت الحرب الإسرائيلية على غزة والتي أسمتها (السيوف الحديدة)، عن سابقتها من العمليات العسكرية على القطاع طيلة العقد ونصف الأخير، وذلك من حيث عدد المهجرين وطول مدة التهجير وما صحبها من معاناة مضاعفة نتيجة الحصار الخانق وقطع كافة الخدمات وتدمير البنى التحتية.
وجرى تهجير المدنيين من خلال أوامر مباشرة من جيش الاحتلال الإسرائيلي مصحوبة بوابل من القصف على مناطق سكناهم، في الوقت الذي كان يدعي الجيش أن أوامر التهجير كانت لحماية السكان المدنيين الذين يتواجدون في مناطق المعارك وفق وصفه، وأنه وفر لإخلائهم ممرات أمنة للوصول إلى ما وصفه بالملاجئ المعروفة، إلا أن الوقائع لا تؤيد ذلك بأي حال، وفق الاستنتاجات التي توصل لها باحثون قانونيون.
بعد مئتي يوم على الحرب المدمرة على القطاع، نزح أغلب السكان صوب مدينة رفح أقصى جنوب القطاع، والتي بات يقطنها حوالي مليون ونصف نسمة في مساحة لا تتجاوز 30 كيلو مترا مربعا. وأصبحت المساكن مكتظة بآلاف العائلات النازحة، بالإضافة إلى عشرات الآلاف الآخرين الذين يعيشون في الخيام التي صنعت أغلبها من النايلون، في ظلّ غياب كافة أساسيات الحياة وتحت ظروف تهدد حياتهم بالخطر الشديد، وبخاصة في ظل استمرار القصف الإسرائيلي لمختلف الأماكن، بما في ذلك مراكز نزوح الأمم المتحدة وخيام النازحين.
وما تزال مدينة رفح التي تضم المعبر الوحيد الذي يدخل المساعدات إلى القطاع، على موعد مع كارثة إنسانية جديدة قد تعد الأكبر، بعد إعلان رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتياهو ووزير الدفاع -أكثر من مرة- عن نيتهم تنفيذ اجتياح بري للمدنية.
تترافق هذه التهديدات مع وجود مواقف دولية كثيرة رافضة لاقتحام المدينة، وتحذر من كارثة إنسانية كبرى قد تترتب على العملية العسكرية، وبناء على هذه الوقائع حاولنا البحث عن إجابة على السؤال التالي:
هل تهجير المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة تهجير قسري ولا ينسجم مع القانون الدولي؟
قبل الإجابة على هذا السؤال حاولنا دراسة وقائع الحرب على غزة عبر مجموعة من الحقوقيين، وذلك من خلال تحديد نقطتين رئيسيتين، الأولى إعلان حالة الحرب وما رافقها من تصريحات، والثانية تتعلق بأوامر الإخلاء وصيغتها.
في الثامن من أكتوبر/ تشرين أول الماضي، أعلن مجلس الوزراء الإسرائيلي الحرب على غزة، وقد صرح رئيس الوزراء "نتنياهو" قبل ذلك بيوم واحد "على سكان قطاع غزة المغادرة"، كما صرح عدد من المسؤولين في حكومته برغبتهم تهجير الفلسطينيين خارج القطاع وبناء مستوطنات فيها.
انطوت تلك التصريحات على صيغ خطيرة، بحسب تصنيف قانونيين "يجب ألا يبقى قطاع غزة على وجه الأرض- إلقاء قنبلة نووية على غزة هو خيار ممكن- نفرض حصارا كاملا على مدينة غزة لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك".
كل ذلك، كما يقول الحقوقيون، كان كفيلاً بدفع الآلاف من المواطنين من سكان محافظتي غزة والشمال، للنزوح القسري باتجاه جنوب القطاع.
على إثر المخاوف التي قذفت بها تلك التصريحات في قلوب السكان والتي تزامنت مع إلقاء منشورات من السماء تطالب بالإخلاء الفوري، وبدافع أبوي طلب الحاج فضل أبو صفية (77 عاماً) أبنيه الوحيدين لمغادرة مسكن العائلة في منطقة جباليا شمال القطاع، والتوجه إلى جنوب القطاع، خشية على حياتهما وأطفالهما.
فيما أثر الحاج أبو صفية البقاء في مسكنه هو زوجته التي تعاني ألاماً في المفاصل تعجزها عن الحركة بمرونة. وخلال النزوح عبر النقطة العسكرية التي خصصتها قوات الاحتلال لعبور النازحين وسط القطاع، جرى اعتقال أحد ابنيه، فيما لم تفلح توسلات أسرته بإخلاء سبيله، ومكث في الاعتقال ما يزيد عن خمسين يوماً، حسبما أكدت الأم.
لم تتوقف المعاناة عند هذا الحدّ، بل سقط صاروخ على مقربة من مسكن الأسرة في منطقة جباليا بينما كان الحاج فضل يحاول تعبئة جالون مياه الشرب، فسقط من الفور، وظل جثمانه لأيام تحت الأنقاض، فيما اضطرت زوجته للنزوح رفقة أقربائها في حي الشيخ رضوان، وفق إفادة الزوجة.
تتبعنا صيغ الإخلاء التي صدرت عن قوات الاحتلال والتي تحمل أوامر بالتهجير القسري الجماعي لمناطق ومدن كاملة في قطاع غزة والذي يمثل 40% من التعداد السكاني في فلسطين بواقع 2.23 مليون نسمة. فقد تبين أن أوامر الإخلاء تكررت في العديد من المناطق لإجبار السكان الذين لم يستجيبوا لأمر الإخلاء على تنفيذه، كما عمل الجيش على إخلاء مناطق كان قد وجه الناحين في السابق إليها، مما تسبب في تهجير النازحين لأكثر من مرة. وسجلت الأونروا ما يزيد عن 1.7 مليون نازح في قطاع غزة، ووفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فإن عدد النازحين الإجمالي لا يقل عن 2 مليون نازح، فيما يلي تبيان أوامر التهجير الأساسية:
يشير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، في ورقة موقف حول التكييف القانوني لتهجير السكان في قطاع غزة، إلى أنه قتل آلاف النازحين في أماكن النزوح أو أثناء عبورهم للممرات الإنسانية التي حددها الاحتلال لإخلاء النازحين من الشمال باتجاه الجنوب، مظهراً حالات الاستهداف على النحو التالي:
بتاريخ 13 أكتوبر 2023 قصفت قوات الاحتلال أكثر من قافلة للنازحين خلال عبورهم شارعي صلاح الدين شرقاً، والرشيد غرباً، تنفيذا للأمر الإسرائيلي بالإخلاء مما أدى إلى ارتقاء 70 شخصاً على الأقل، بالإضافة إلى عشرات الإصابات.
في المدة الممتدة من الثالث وحتى السادس من نوفمبر الماضي، استهدف جيش الاحتلال النازحين الذين فروا تحت وطأة القصف من شمال غزة، بما فيها قصف واقتحام المشافي والمدارس التي لجأ لها النازحون في بداية الحرب الإسرائيلية على القطاع، وقد أدى القصف إلى سقوط 24 شهيداً، بالإضافة إلى عشرات الإصابات.
بوجه عام، وبحسب "المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان" فقد قتل الاحتلال آلاف النازحين وأصاب عشرات الآلاف، نتيجة الاستهداف الذي طال أماكن النزوح والتي شملت (المدارس الحكومية، المستشفيات والعيادات الحكومية والخاصة، مؤسسات الأونروا بما فيها المدارس والعيادات، مناطق الخيام، الأماكن الترفيهية العامة والخاصة، بيوت الأقارب، بيوت الإيجار).
تقدر منظمة الأونروا، أنه -بالإجمال- قتل ما لا يقل عن 409 نازحاً أثناء تواجدهم في ملاجئها، وأصيب أكثر من 1400 نازحين على الأقل منذ بدء الحرب، ولا يوجد إحصاء دقيق لعدد الضحايا النازحين في الأماكن الأخرى ولكنها تقدر بالآلاف.
وضعت أربعة نصوص قانونية دولية، موضع التحليل، للوقوف على شكل الانتهاك الذي تسبب به الاحتلال بحق هذه النصوص، والتي ألقت بظلال خطيرة على النازحين المدنيين في قطاع غزة، وهي على النحو التالي:
الاستعراض الآنف، وبحسب التحليل الذي يستند إلى رؤيا المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، يعطي دلالة واضحةً، أن تهجير المدنيين الفلسطينيين مخالف لالتزامات دولة الاحتلال الإسرائيلي بموجب المادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة، "ويمكن تصنفيه بأنه تهجير قسري وجماعي، حيث إن جيش الاحتلال أجبر السكان المدنيين على ترك منازلهم بالتهديد وتحت وطأة القصف ودون وجود ضرورة عسكرية ملحة ولم يوفر مأوى للنازحين بل عمل على تشريدهم وحصارهم وتجويعهم في ظل ظروف لا إنسانية تهدد حياتهم بالخطر الشديد".
وطبقا للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، فإن هذا الواقع ينفي ما قاله الاحتلال بأنّ التهجير جاء لحماية المدنيين.
هذه النتيجة رجحها أيضاً، مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، إذ قالت الناطقة باسمه رافينا شامداساني: "يبدو أنه لم تكن هناك أي محاولة من جانب إسرائيلي لضمان ذلك (سكن مناسب وظروف حياة مرضية) للمدنيين البالغ عددهم 1.1 مليون ممن أمروا بالتحرك. ويساورنا القلق من أن هذا الأمر المقترن بفرض حصار كامل على غزة لا يمكن اعتباره إجلاء مؤقتا قانونياً وبالتالي قد يصل إلى مستوى النقل القسري للمدنيين بما ينتهك القانون الدولي".
وذهب إلى نفس النتيجة مقررة الأمم المتحدة الخاصة بالنازحين داخليا، باولا غافيريا بيتانكور، وبالتالي يخلص المركز الفلسطيني في ورقة تقدير الموقف إلى نتيجة مفادها "أن قادة الحرب الإسرائيليين مسؤولون عن خرق جسيم للمادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة من خلال ارتكاب الإخلاء القسري بحق المدنيين الفلسطينيين".
هذا الواقع برمته، رأى فيه رئيس مركز الميدان لحقوق الإنسان عصام يونس، أنه يجب أن يحفز الفاعلين في العالم تجاه محاسبة المتسببين بالانتهاك، ويستوجب حماية الضحايا وإنصافهم أيضا.
وقال يونس: " جميع الجرائم التي ترتكب في قطاع غزة، وثقت، وهي تشكل انتهاكاً واضحا وصارخا للقانون الدولي، وبالتالي لا يمكن لأحد أن ينكر أنه سمع ورأى (..) نحن نخاطب الفعالين الأساسيين في هذا العالم الذين ارتضوا طوعا من خلال ميثاق الأمم المتحدة على سبيل المثال، بضرورة العمل على الحفاظ على سلامة وصيانة السلم الدولي، عبر إنصاف الضحايا ومحاسبة الفعالين".
وأشار المفوض العام السابق للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، إلى أن الفلسطينيين يواجهون ازدواجية معايير، "والخطير هو وجود سياسة الكيل بمكيالين"، وقال: "في غياب المحاسبة سوف تستمر الانتهاكات وبالتالي يجب وضع حد للانتهاك الحاصل وإنصاف الضحايا وملاحقة المتسببين بهذا الجرم".