يبدي المواطن الفلسطيني باسم صيام (43 عاماً) قلقاً شديداً على أبنائه الأربعة وزوجته الذين يقيمون حالياً في رفح جنوب قطاع غزة، ذلك بعد أن فقد الاتصال بهم خلال الحرب على القطاع لما يزيد عن أسبوعين.
قال المواطن صيام إن أبناءه رافقوا أمهم في الانتقال من شمال القطاع مطلع الحرب على غزة في السابع من أكتوبر الماضي، إلى جنوبه، وقد قادتهم الأقدار بالانتقال في رحلة نزوح ممتدة من مخيم النصيرات وسط القطاع إلى محافظة خانيونس جنوباً وصولاً إلى محافظة رفح أقصى جنوب القطاع.
قبل يومين من فقدان الاتصال الناجم عن توقف شبكات الاتصالات الخليوية المحلية عن العمل بفعل الحرب، استمع صيام إلى صوت أحد أبنائه وهو يرقد على سرير مشفى أبو يوسف النجار في رفح، ذلك بعد تعرضه لوعكة صحية على أثر تلوث الغذاء والماء، كما قال.
وأضاف الأب الذي يقيم في مدينة غزة: "للأسف أخبرني أبنائي أن أوسطهم يعاني ارتفاعا شديدا في الحرارة وضيقاً في التنفس بالتزامن مع انخفاض دراجات الحرارة، وبعدما فقدت الاتصال بهم ازداد قلقي عليه، إلى الحد الذي أصبحت أحدث فيه نفسي قلقاً وخوفاً على صحته". ثم أنه وبعد العودة المؤقتة لشركات الاتصالات تمكن من التواصل مع أبنائه واطمئن على صحة أوسطهم الذي يبلغ من العمر سبعة عشر عاماً.
وأدمعت عينا الأب وهو يروي حنينه لأبنائه وزوجته، قائلاً: "كنا نظنها أياما وتنتهي معاناتنا ويلتم شمل الأسرة، لكن الوقت يمر والحنين يشتعل وللأسف لا أفق لعودة قريبة محتملة"، قال ذلك بعد أن أنهى مكالمته مع أسرته التي مضى على نزوحها خمسة أشهر.
وحرم نحو أكثر من مليون فلسطيني ممن نزحوا إلى جنوب القطاع من التواصل مع أبنائهم أو أقربائهم لأيام عديدة، بفعل انقطاع الاتصال. ومؤخراً ومع العودة المتذبذبة لقطاع الاتصالات الخلوية، يحاول سكان غزة وشمال القطاع إجراء مكالمات مع ذويهم من خلال نقاط محددة يضطرون لقطع عشرات الكيلومترات من أجل الوصول إليها.
وقال أحمد عروق (62 عاماً) إنه كان يسير مشياً على الأقدار في طريق وعر من أجل الانتقال من حي الشيخ رضوان شمال غرب مدينة غزة وصولاً إلى حي الرمال وسط المدينة من أجل إجراء اتصال مع ابنه الذي يقيم هو وأسرته مركز نزوح "المواصي" المقام إلى الغرب من مدينة خانيونس بمحاذاة الشريط الساحلي.
وأشار عروق، إنه كلما استمع عبر المذياع إلى وجود أبناء عن عمليات قصف أو استهداف لنقاط سكانية ومراكز لجوء في خانيونس، يزداد تخوفاً على حياة ابنه وأسرته، ويقوده ذلك لقطع مسافة تزيد عن 16 كيلوا متراً ذهاباً وإياباً من أجل اجراء الاتصال للاطمئنان عليهم.
وأبدى استياؤه الشديد من تعميق أزمة سكان القطاع بدءًا بالمياه والكهرباء وصولاً إلى الاتصالات، والتي قال في وصفها إنها "على الأقل تبقيك على أمل أنك حي موجود وبإمكانك أن تُسمِع أحدهم صوتك، لا أن تموت ولا يسمع حتى أقرب الناس إليك بالنبأ إلا بعد وقت، نتيجة قطع الاتصال".
في المقابل، أيام طويلة قضاها نازحو المنطقة الجنوبية من قطاع غزة، وهم يكابدون معاناة موازية نتيجة فقدان الاتصال بأقربائهم، وقالت هبة عبد الناصر التي نزحت رفقت زوجها وطفليها إلى محافظة خانيونس جنوباً إنها كلما كانت تشتد عمليات القصف على مدينة غزة، كلما كانت تشعر بالكثير من الألم والعجز، نتيجة عدم تمكنها من التواصل مع أسرتها.
وأبدت عبد الناصر (35 عاماً) حزناً شديداً نتيجة إصابة والديها في إحدى الغارات على مدينة غزة في الشهر الثالث للحرب، وهي لم تستطع أن تقدم لهما المساعدة، أو على الأقل تقدم مناشدة لعلاجهما.
وقالت: "قطع الاتصال شكل أزمة نفسية بالنسبة لنا كنازحين، ففي الدقيقة الواحدة ينتابك الكثير من الخوف والذعر، وتتبادر إلى ذهنك الكثير من السيناريوهات المرعبة المتعلقة بذويك وأقاربك هناك في الشق الثاني من القطاع، ونتيجة لشدة الخوف فأنت توقع الأسوأ دائماً. في الحقيقة أنا اعتقد أن قطع الاتصال ما هو إلا حرب على حرب".
أما سحر عثمان (25 عاماً) التي نزحت في الشهر الثاني للحرب من مدينة غزة باتجاه المحافظة الوسطى حيث بيت جدها من ناحية الأم، فقد فقدت الاتصال بزوجها المقيم في شمال القطاع لأيام عديدة، وقد كانت تبتغي من مهاتفته أن تخبره عما حل بأسرتها من مأساة.
عثمان التي لا تزال تعيش صدمة الفقد، قالت إن إحدى الغارات الإسرائيلية قد استهدفت البناية التي تقيم فيها، الأمر الذي أدى إلى استشهاد والدها وشقيقها، فيما أصيبت هي وأطفالها الأربعة بإصابات مختلفة، لاتزال تعاني من أثارها.
وأضافت "كنت في أمس الحاجة إلى كتف زوجي حتى اتكأ عليه، أو على الأقل أن أخبره عما حل بنا من كارثة، وأطمئنه في الوقت نفسه عن أطفاله، لكن انقطاع الاتصال فاقم الأزمة كثيراً، وبدلاً من استمع إلى كلمات المواساة، كنت أستمع إلى اسطوانة الهاتف التي ما فتئت تخبرني لأيام عديدة أنه لا يمكن الوصول إلى الرقم المطلوب، وفي الحقيقة أصبح هذا الصوت يثير توتري حتى بعد العودة المحدودة للاتصالات".
في الأثناء يشير المختص النفسي محمد مهنا أن قطع الاتصال أسهم بشكل أو بآخر في زيادة مساحة الضغط على سكان القطاع من الناحية النفسية، لاسيما أنه يجعل الإنسان في حيرة من أمره وبخاصة أنه لا يستطيع أن يهاتف أقرب الناس إليه للاطمئنان على صحتهم وسلامتهم لساعات وأحياناً لأيام.
وأوضح المختص مهنا، أن انقطاع الاتصال يشعر الإنسان أنه معزول عن العالم الخارجي وأن لا أحد يشعر بمعاناته، وهذا في الواقع أمر مؤذٍ على المستوى النفسي، خصوصاً أنه يجعل الإنسان يتخبط ويشتت تفكريه.
وقال: "البيئة المحيطة بيئة خصبة بالأحداث المأساوية، وبالتالي فإن الأشخاص الذين يفقدون الاتصال بأحبتهم، فهم غالباً ما يرجحون الاحتمالات السلبية إزاء ما يمكن أن يتعرضوا له من أذى خلال الحرب، خصوصاً أن الأنباء المتواترة لا تعطي في كثير من الأحيان تفاصيل مطمئنة حول سلامة ذويهم، ولذلك فهم يقعون تحت وطأة التفكير السلبي".
ويحظر القانون الدولي الإنساني الأعمال الانتقامية بما فيها الأشياء التي لا غنى عنها لاستمرار حياة السكان المدنيين، كما يفرض القانون الدولي الإنساني قواعد الحماية العامة على الأطراف المتنازعة، إذ يتمتع جميع السكان المدنيين أثناء النزاعات المسلحة، كالتي تقضي بعدم قتل المدنيين أو عدم نقلهم وترحيلهم إلى خارج المناطق المحتلة.
لسنا في حاجة إلى أعمال النظر من أجل التثبت من حقيقة أن السلوك العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة، يشكل انتهاك للقانون الدولي الإنساني بحق المدنيين، الذين حرمهم من أدنى حقوقهم بما فيها الحق في التواصل مع أسرهم النازحة تحت وطأة الحرب.