تدمير بنايات غزة: المدنيون فقدوا الأمان

تدمير بنايات غزة: المدنيون فقدوا الأمان

لم تحتمل عبير نعمان (48 عاماً) أن ترى البرج السكني الذي تقطنه يتناثر فتات أمام عينيها، بعدما هربت وأسرتها تحت وطأة تهديد الاحتلال الإسرائيلي بقصفه قبل الإقدام على فعل التدمير بنحو عشرين دقيقة.

انزوت عبير هي وأبناءها الخمسة جانباً على مسافة تزيد عن مئتي متر تقريباً من (برج فلسطين)، تحسباً من الإصابة بالشظايا. كانت السيدة تراقب عن كثب عملية قصف البرج الذي عاشت فيه هي وأسرتها أكثر من 13 عاماً، وتنحب قائلة: "ضاع شقا العمر.. أين نذهب، أين نختبئ؟".

سقطت عبير مغشي عليها، وكان أبناءها يصرخون ويحاولون إفاقتها، بينما كانت أسر أخرى تقطن معهم في ذات البرج، تصرخ ولم تحدد بعد بوصلة نزوحها. يقول يحيى أبو سهيل وهو شاب في الخامسة والعشرين من عمره، لقد هاتفنا بعض الأقارب من أجل احتواء أسرتنا المكونة من 11 فرداً، وها نحن نستعيد إلى الرحيل.

يقول أبو سهيل الذي سكن البرج الذي يزيد عمره عن 25 عاماً، عندما كان طفلاً: "كنا نعتقد أنهم سيكونون أكثر رأفة (يقصد الاحتلال الإسرائيلي) وأن طلب الإخلاء ما هو إلا محاولة لإثارة الذعر فقط، لكنهم نفذوا تهديدهم بالفعل وأصبحنا مشردين، ولم نستطع أن نجلب شيئا من مقتنياتنا، بالكادّ نجونا بأرواحنا!".

ويعد برج فلسطين، واحدًا من أقدم الأبراج في قطاع غزة والتي جرى تدمير العديد منها خلال أقل من 24 ساعة من إعلان إسرائيل حالة الحرب على قطاع غزة، رداً على الهجوم المباغت الذي نفذته كتائب القسام (الذراع العسكري لحركة حماس) واقتحام المستوطنات المحاذية لغلاف غزة.

وتعد سياسة تدمير المباني السكنية أو التجارية هي واحدة من أوراق القوة التي تستخدمها إسرائيل ضد المقاومة في غزة، غير أنها عملية يدفع ثمنها السكان المدنيين الذين يفقدون مساكنهم وأعمالهم نتيجة لذلك.

في لحظةٍ واحدة، انقلبت حياة العشرات من المواطنين المدنيين على امتداد القطاع البالغ مساحته 365 كلم2. وتحوّلت حالة الهدوء والترقب التي كانوا يعيشونها إلى خوف وهلع، إذ تشردوا ولجأ العشرات منهم إلى المدارس والمشافي داخل المدينة.

وفقد القطاع حتى إعداد هذا التقرير نحو 313 شهيداً وإصابة نحو 1990 آخرين، من أصل 2.4 مليون نسمة يعيشون في خمس محافظات، غالبيتهم يواجهون خطراً كبيراً نتيجة سلسلة الغارات الجوية والبرية التي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي، وجميعهم محرومين من وجود الملاجئ.

أحد الناجين من تدمير بناية متعددة الطوابق تقع إلى الغرب من مدينة غزة، خمسيني يدعى أبو عبد الله، قال وهو يومئ بكفيه صفر اليدين، "هذه الشقة جمّعت ثمنها من حبّات عيني، وشقا عمري"، في إشارةٍ إلى أنّه وضع كل ما يملك من مالٍ في بناء شقته، أما اليوم فلا يواسيه شيء في خسارته الفادحة.

بشكلٍ عملي، لا يمتلك السكان في قطاع غزة، ملاجئ تحميهم وقت العدوان، ولا توفر لهم الحكومة بدائل عن شققهم السكنية، فالكثير منهم يلجؤون في هذه الظروف إلى المدارس وكالة غوث اللاجئين "الأونروا"، بشكلٍ مؤقت يحتمون فيها من خطر موتٍ محدق.

ما يزيد الأمر تعقيداً أن قطاع غزة يبدو ككتلة خرسانية واحدة ممتدة نتيجة الكثافة السكانية الكبيرة وتنافرها مع محدودية المساحة؛ الأمر الذي يجعل من نزوح السكان غير المهددين أمرًا حتميًا أيضاً، لأن المباني متلاصقة وهذا يزيد من المخاطر على السكان، فبينما يضطر السكان إخلاء مبانيهم تحت وطأة التهديد الإسرائيلي بقصفها، يفعل الجيران الشيء ذاته خوفا على حياتهم وأطفالهم.

يثير هذا الواقع الكثير من الأسئلة في أذهان سكان قطاع غزة الذين يعيشون حصاراً منذ أكثر من عقد ونصف من الزمن، أهمها: لماذا لا تتوفر ملاجئ يمكن أن يحتمي بها السكان المدنيون؟

 

من الواضح أنه لم تسعى أي من الجهات المسؤولة محلياً ولم ترع المنظمات الدولية على الأقل، اقتراحاً كهذا من أجل حماية السكان المدنيين وتبديد مخاوفهم، منذ العدوان الأول على غزة خريف 2008، والذي استخدم فيه أشكالاً متعددة من الصواريخ الثقيلة.

ووفقاً لشهادات كبار سن ممن عاصروا هجمات جوية في حقبتي الخمسينيات والستينيات على غزة، فقد أقيمت الملاجئ بعد عدوان عام 1956 مباشرة، بقرار من الجيش المصري ، وتوزعت في ثلاث محافظات من أصل خمس على مستوى القطاع الذي تبلغ مساحته 365 كلم2.

تُشير المعطيات على الأرض إلى اندثار هذه الملاجئ بشكل كامل، ولم يذكر أي من أبناء جيل السبعينيات على الأقل شيئاً عن هذا التحصين الذي يستخدم لإيواء المدنيين خلال الهجمات العسكرية.

يقول عبد الله أبو سالم (49 عاماً) من سكان شمال القطاع، "منذ 17 عامًا تتربع الحرب على الحياة اليومية للناس في هذا البلد المنكوب والقصف والقذائف ينهمران من السماء في أي وقت وأحياناً دون سابق إنذار، ورغم ذلك لم يفكر أحد في صناعة ملاجئ أسوة بدولة الاحتلال التي تدعو ساكنيها كلما اشتد القصف بالنزول إلى الملاجئ!".

وأضاف أبو سالم وهو متعطل عن العمل بفعل أمراض مزمنة يعانيها: "هذه كارثة حقيقة، أنه لا يوجد مكان آمن يمكن أن يحتمي فيه الناس، عدا عن أن الاحتلال لا يميز بين منشآت مدنية أو عسكرية، فكلها سواء تحت مرمى الصواريخ".

وتقرّ اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بضرورة حماية الأشخاص المدنيين في زمن النزاعات المسلحة، وهي تعتبر أول تنظيم قانوني واتفاقية دولية خاصة بحماية المدنيين خلال النزاعات. وتفرض اتفاقية جنيف، على الأطراف المتنازعة التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين، ويشمل اصطلاح السكان المدنيين، كافة الأشخاص المدنيين المقيمين على إقليم الدول المتحاربة والسكان المدنيين المقيمين في الأراضي المحتلة.

وفي وصف "المدني"، تقول الاتفاقية، هو كل شخص لا يشترك (يقاتل) في الأعمال العدائية بشكل مباشر، وإذا ما أثير الشك حول ما إذا كان شخص ما مدنياً أو عسكرياً فإن صفة المدني هي التي تغلب، وتمتد هذه الحماية لتشمل المشاركين في الخدمات الطبية، وأعمال الإغاثة والصحفيين وأفرد أجهزة الدفاع المدني. غير أن الواقع يسجل انتهاكات دورية لكل ما ورد في تلك الاتفاقية.

إزاء ذلك، يقول الحقوقي الفلسطيني عصام يونس: "ارتكبت إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال ما يرتقي لمستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في عموم الأرض الفلسطينية".

وأضاف يونس الذي يتبوأ منصب نائب رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، "على الرغم من حقيقة ارتكاب تلك الجرائم ولا سيما خلال العدوان على قطاع غزة، إلا أن العدالة أبعد ما تكون عن التحقق، وتستمر التضحية بالمدنيين وحقوقهم، ويواصل الاحتلال ارتكابه للجرائم دون حدّ أدنى من الإنصاف للضحايا، ودون إعمال لقواعد القانون ولا سيما قواعد المحاسبة وضمان عدم إفلات المجرمين بجرائمهم".

وفي الوقت الذي لا يعرف فيه السكان النازحون وجهة للهروب من العدوان الذي اندلع صباح السابع من أكتوبر، تشير تقديرات محللين سياسيين، إلى أن العدوان ربما يمتد لأيام طويلة؛ الأمر الذي يعقد على النازحين ويزيد مخاوفهم.