قبل شروق الشمس بنحو ساعة يستقل الفتى هادي فتحي (14 عامًا) عربة كارو يتنقل بها من بيته الواقع شمال قطاع غزة إلى وسط المحافظة، يجوب الشوارع والطرقات العامة بحثًا عن مخلّفات البلاستيك التي يجمعها من نبش حاويات النفايات الممتدة على طول الطريق.
يقضي الطفل هادي نحو 12 ساعة يومياً كدا وتعباً بحثا عن البلاستيك، وينتهي به المطاف لدى ورشة يصطلح عليها في غزة بـ"مجرشة"، متخصصة في إعادة تدوير البلاستيك، حيث يبيع القطع البلاستيكية مقابل بضعة شواكل ويستثمرها في إعالة أسرته التي تعاني قلة ذات اليد.
يغادر الطفل الورشة من فور حصوله على المال، مخلفا وراءه عدد من العمال الذين يقومون بطحن مخلّفات البلاستيك، يسبق ذلك القيام بتنظيفها، ومن ثم تشكيلها على هيئة أدوات بلاستيكية تستخدم في السوق المحلي، عبر هذه الورشة وورش أخرى موزعة على مناطق متفرقة من القطاع، لم يتسنى معرفة عددها، لكن هناك خمسة مصانع بلاستيك في غزة، وفقاً لإحصاءات وزارة الاقتصاد الوطني.
ومهما بلغ حجم هذه المخلفات التي يجري إعادة تدويرها، فهي تشكل 1% من مجموع النفايات الصلبة المعالجة. ويُقدّر حجم البلاستيك من النفايات الصلبة الأخرى التي ينتجها قطاع غزة يوميًا، بـ 1.595 طنًا/اليوم، وهو ما يُشكّل نسبة (17%) من مجموع النفايات الصلبة الأخرى، فيما تُمثل المعادن والزجاج والرمال نسبة (22%)، والورق والكرتون (11%)، فيما تُشكِل النفايات العضوية القابلة للتخمر كبقايا الطعام ومخلّفات الحرائق ما نسبته (50%).
وإنّ كان الفتى هادي وغيره العشرات وإن شئت قل المئات من النباشين وغيرهم من العاملين في ورش إعادة تدوير النفايات، يفعلون ذلك بدافع البحث عن لقمة العيش، فإن هناك أطنانًا من النفايات الصلبة لا أحد يلقي لها بالاً. وهي من ناحية عملية تشكل تحدياً بالنسبة لسكان القطاع والبيئة عموماً، الأمر الذي يثير تساؤلاً: كيف تتخلّص غزة من نفاياتها الصلبة في ظلّ المعيقات التي ترتبط بعمليات إدارة النفايات عامة؟
يُشير الخبير البيئي أحمد حلس إلى أن المشكلات المتعلقة بإدارة النفايات الصلبة التي تشكّل نسبة (50%) من النفايات عامّةً وسبل التخلص الآمن منها، واحدة من أهم التحدّيات وأكثرها تعقيدًا في الواقع البيئي الغزي، وذلك في ظلّ ما تكشف عنه الإحصاءات من كميات هائلة من النفايات يتم إنتاجها يوميًا وسط افتقار حادّ لعمليات تطوير مكبات النفايات وتوفر الشروط الصحية والبيئية لحماية المواطنين من مخاطرها.
يُنتج قطاع غزة الذي يتربع على مساحة 365 كم²، ويُقدّر عدد سكانه بحوالي 2.23 مليون نسمة، حوالي ألفي طن يوميًا من النفايات الصلبة، ما يعني (60 ألف طنّ) شهريًا وهو ما يُشير إلى وجود مُخلّفات صلبة سنوية تزيد عن (700 ألف طن) ناتجة عن مختلف الأنشطة المنزلية والتجارية والزراعية والصناعية والعمرانية والرواسب الناتجة عن محطات معالجة المياه العادمة.
هذه الكميات تزداد خطورتها بفعل عدم تنظيم قطاع تدوير النفايات وصغر حجمه مقارنة بحجم النفايات الصلبة الموجودة أصلاً، وفقًا لما أفاد به حلس، ووصول مكبات النفايات إلى الحدّ الأقصى من الاستيعاب، "فعلى الرغم مما شهده من تحسن في السنوات الأخيرة؛ إلا أنّه لا يُلبي على الأقل الحدّ الأدنى المطلوب لحلّ الأزمة" حسبما قال.
يتقاطع قول حلس مع ما يشير إليه تقرير صادر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان، والذي يقول بشكل واضح إن مخاطر النفايات الصلبة تتفاقم في القطاع بسبب سوء إدارتها نتيجة لمكبات النفايات أو محطات ترحيلها أو نقاط تجمعها، سواء كانت مخاطر بيئية أو صحية، ومنها خطر اشتعالها وحدوث حرائق، وتلوث الهواء في أماكن تواجدها، ومخاطرها على التربة والزراعة. إضافة إلى التسبب بأزمات صحية للسكان، والعاملين في المهنة على حدٍ سواء.
يتناقض هذا الحال برمّته، مع تأكيد خبراء بيئيين بضرورة أن تخضع عمليات إدارة النفايات في القطاع لما نصّت عليه المواثيق الدولية لحماية البيئة والصحة العامة. وتحديدًا المادة (12) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تشير إلى اتخاذ التدابير اللازمة لتحسين جميع جوانب الصحة البيئية والصناعية، ووقاية السكان من الأمراض الوبائية والمتوطنة والمهنية والأمراض الأخرى وعلاجها ومكافحتها.
ويرجع تقرير "الميزان" تدهور واقع إدارة النفايات الصلبة في غزة، وما ينتج عنه من آثار بيئية وصحية لمكبات النفايات في القطاع، إلى ممارسات سلطات الاحتلال الإسرائيلية التي تتمثل في إعاقة إنشاء مكبات في المناطق الحدودية البعيدة عن المناطق السكنية، وكذلك إعاقة عمليات تطوير المكبات الموجودة، إذ حالت دون توسعة مكب النفايات القائم في جحر الديك.
يقول المركز إن منع دخول الآليات اللازمة للعمل في المكبات وحجب إدخال آليات جمع النفايات التي تستخدمها البلديات، بالإضافة إلى منع إدخال قطع الغيار اللازمة لصيانة الآلات والمُعدّات الخاصّة بمنظومة جمع النفايات الصلبة والتخلص منها، وغيره، تشكل تحديات كبيرة أمام تحسين هذا الواقع.
ويوجد في قطاع غزة 10 مكبات للنفايات موزعة ما بين مركزية ومؤقتة وعشوائية. ويُعد مكبي (جحر الديك) شرق قطاع غزة ومكب (الفخاري) جنوب القطاع، من أكبر المكبات المتواجدة سواء كمساحة أو معدّل استقبال نفايات يومية.
طبقا للمعايير البيئية المحلية الخاصة بعملية تنظيم مكبات النفايات ونقاط ترحيلها؛ فيجب أن تبعد مكبات النفايات مسافة لا تقل عن 500 متر عن التجمعات السكنية، وأن تكون مساحتها كافية لاستيعاب النفايات ضمن خطة زمنية لوقت معلوم. كما تنص المعايير على ضرورة إحاطة المكبات بسياج أو أية وسائل للحد من تأثير الرياح والحيوانات، وألا تقع المكبات ضمن مناطق حساسية لتزويد المياه الجوفية أو مناطق حماية مصادر المياه والأمطار أو المصنفة كمحميات طبيعية، أو مناطق ذات أهمية تاريخية، أو دينية، أو ثقافية.
كما يجب عمل طبقة عازلة تمنع تسرّب عصارة النفايات، ووضع نظام لاستخلاص ومعالجة الغازات الناتجة عن تراكم وتحلل المواد العضوية، ومعالجة العُصار الناتج عن المكب. أيّضًا وضع آبار مراقبة في محيط المكب لرصد أيّة تغييرات على خصائص المياه الجوفية، ووضع نظام لمكافحة الحرائق، وكذلك وضع خطة لإغلاق المكب عند الحاجة.
أما فيما يتعلق بمحطات ونقاط ترحيل النفايات، فيُشترَط التواجد في موقع جغرافي سهل الوصول، و تتناسب مساحته مع حجم النفايات الواردة للفرز أو النقل، والإحاطة بسور عازل، وتزويد الموقع بمورد مائي لرش النفايات وإطفاء الحرائق، كما يجب ترحيل النفايات وغسل المكان وتنظيفه يوميًا، وتوفير نظام صرف صحي خاص بالموقع وعدد كافٍ من المغاسل والحمامات لنظافة العاملين في النفايات.
في واقع الأمر تبدو المعايير الآنفة مجرد حبر على ورق، وبخاصة إذا ما أخذ بعين الاعتبار محطة ترحيل النفايات الواقعة في شارع الوحدة المسماة (محطة اليرموك) على سبيل المثال لا الحصر، فهي يحدها من جهة الشرق سوق تجاري، فيما يحدها من الغرب والشمال تجمع سكاني.
بموازة ذلك، تُومئ المؤشرات المحلية إلى أنّ مكب "جحر الديك" (مكب النفايات الرئيسي بالنسبة لمحافظة غزة ) سيصبح غير قادر على استقبال النفايات مع نهاية عام 2024 أي بعد نحو عام من الآن؛ لحاجته للتوسعة وإنشاء خلايا جديدة، إذ يحتاج إلى (5) آليات لدفع النفايات نحو الأماكن المخصصة لعدم كفاية وتأهيل الآليات المتوفرة.
إضافة إلى ذلك يحتاج مكب حجر الديك إلى نحو (14) عربة لجمع ونقل النفايات الصلبة من محافظتي غزة والشمال بجانب العربات المتاحة، وذلك ليتواءم عدد العربات مع كميات النفايات اليومية. أما مكب الفخاري فهو بحاجة إلى رافعات رفضت سلطات الاحتلال إدخالهم إذ يوجد به (7) رافعات قديمة بحاجة للاستبدال ليتمكن من خدمة السكان بالشكل المرجو.
وإلى جانب المكبين المركزيين، يوجد هناك مكبات مؤقتة وعشوائية يوجد فيها آلاف الأطنان من النفايات، ومنها مكب جباليا بمساحة (95 ألف م2) ويوجد به (315 ألف طن)، وكذلك مكب بيت لاهيا الذي يشغل مساحة (37 ألف م2) ويحتوي (161 ألف طن) من النفايات، أما مكب بيت حانون فتبلغ مساحته (60 ألف م2) ويتضمن (222 ألف طن) من النفايات، وهناك أيضًا مكب خزاعة بمساحة (3 آلاف م2) ويوجد به (15 ألف طن) نفايات.
تعد هذه المكبات التي تتسم جميعها بأنها غير مهيأة وفقا لتقرير "الميزان"، مكبات مؤقتة، غير أن اضطرار البلديات كما تقول لاستخدمها بشكل مفرط نظراً لكميات النفايات المستخرجة، فإن هذا حولها إلى مكاره صحية وخطر حقيقي على صحة البيئة والسكان على حد سواء.
وبصرف النظر عن الوضع القائم الذي تعانيه المكبات، لكن بعضها يستخدم في عمليات إعادة التدوير، إذ يعمل مكب جحر الديك المركزي على إعادة تدوير النفايات الصلبة بنسب متفاوتة، ومنها إعادة تدوير المخلفات الحديدية بشكلٍ كامل وبنسبة (100%)، وكذلك (60%) من النفايات البلاستيكية، و(30%) من المخلّفات الورقية والكرتونية.
النسب الآنفة مقرونة بإعادة التدوير في مكب "جحر الديك" وحده، وهذا يعني أن يدا واحدة لا تصفق، إذ أن تسعة مكبات أخرى ليس بمقدورها القيام بذات المهمة، وهذا ما يفسر تدني نسبة إعادة تدوير النفايات داخل القطاع.
يقول الخبير البيئي أحمد حلس إنّه على الرغم من أنّ نسبة المواد العضوية القابلة للتحلل وإعادة التدوير كبيرة إذ تُشكل (50%) غير أنّ ما يتم جمعه لإعادة تدويره قليل جدًا حوالي (3%) فقط، وما يتم فعليًا إعادة تدويره حوالي (1%). إضافة إلى أنّ المواد الوحيدة المعاد تدويرها حاليًا في القطاع هي النفايات العضوية وبعض البلاستيك والورق المقوى، فيما تجمع كمية من المعادن وترسل إلى الخارج.
وتشير البيانات السابقة إلى التأثيرات السلبية لمكبات النفايات على الواقع البيئي المتهالك أصلاً؛ مما يؤثر سلبًا على العمليات الحياتية لا سيما صحة السكان. وذلك لما يُشكّله القطاع البيئي من أهمية كأحد القطاعات الحيوية الرئيسية التي تؤثر بشكل مباشر على حياة الناس، خاصةً فيما يتعلق بالواقع الصحي.
أمام هذه المعطيات، أكّد الباحث في وحدة الدراسات بمركز الميزان لحقوق الإنسان، حسين حمّاد، على أنّ مواجهة الإجراءات التي تُعقد من الواقع البيئي تتطلب اتخاذ عدّة خطوات، أهمها التعمق في دراسة الآثار البيئية والصحية للمكبات غير الصحية في قطاع غزة؛ لتبيان آثارها بشكل علمي سليم. وكذلك تحميل الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية بصفته قوة احتلال للقطاع.
وشدد الباحث حماد في سياق حديثه لـ"آخر قصة" على أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته بإلزام سلطات الاحتلال بالسماح بإنشاء مشروعات إدارة النفايات الصلبة والمشروعات التنموية والاقتصادية الحيوية في قطاع غزة، والسماح بإدخال الأجهزة والمعدات اللازمة لتلك المشروعات، ووقف انتهاكاتها الجسيمة والمُنظمة بحق المدنيين الفلسطينيين.
وقال: "ادعو الهيئة الوطنية العليا للمحكمة الجنائية الدولية لإعداد ملفات خاصّة حول جرائم الاحتلال بحقّ البيئة والمياه ورفعها للمحكمة ضمن الملفات الفلسطينية"، مشيرًا إلى ضرورة ممارسة الضغط بكافة أشكاله لمناصرة الانتهاكات التي يمارسها الاحتلال تجاه المشكلات البيئية التي يعاني منها سكان قطاع غزة.
وينصح الخبراء البيئيون بضرورة أن تكون إدارة النفايات الصلبة في قطاع غزة مشروعًا مستدامًا يعتمد على تكامل العوامل البيئية والاقتصادية والاجتماعية، ويشمل تشارك المجتمع المحلي والجهود المشتركة لتحقيق حلول فعالة وآمنة لهذه المشكلة الخطيرة.
مكبات النفايات - غزة