تواجه العديد من الأسر في قطاع غزة تحدّيات كبيرة، بسبب ضيق مساحة الشقق السكنية وعدم توفر غرف منفصلة للذكور والإناث؛ مما يؤدي إلى فقدان الخصوصية، وهو أمر منافي للتوصيات مختصين تربويين للأثر السلبي فكريًا ونفسيًا نتيجة انعدام الاستقلالية.
وتعد قضية العجز عن الفصل بين الأبناء، أمر مؤرق بشكل كبير أمام أرباب الأسر، كما أنه أمر يجعلهم في مأزق أمام المعايير المجتمعية والدينية التي تُفضل استقلالية كلا الجنسين.
تتضح المشكلة أكثر بالاطلاع على بيانات إحصائية تفيد بارتفاع معدل الكثافة السُكانية في قطاع غزة الذي تُقدّر مساحته بـ 365 كم² فقط، إذ يصل إلى أكثر من 5 آلاف وأربعمئة فرد يقطنون في كل كم². وهو ما يتسبب بتكدّس الأشخاص داخل شقق سكنية صغيرة.
كما يحول هذا الأمر دون إمكانية تمتع الكثير من السكان الذين تجاوز عددهم 2.23 مليون نسمة بشققٍ سكنية ذات مساحات "معقولة"، وسط عجزٍ إسكاني يصل إلى أكثر من 100 ألف وحدة سكنية، إذ تُشير تقديرات حكومية إلى حاجة القطاع إلى 14 ألف وحدة سكنية سنويًا.
ندى وائل (24 عامًا) هي شابة تعاني كثيرًا نتيجة ازدحام بيت أبيها الصغير بالإخوة والأخوات. حيث أن مساحة البيت لا تتجاوز (70 مترًا) ويقطن فيه 7 أفراد يشتركون في المنافع والمعيشة والاهتمامات وظروف الدراسة وغيرها الكثير، في انعدامٍ تام لخصوصية أيّ منهم.
تصف ندى التي تزوجت قبل ستة أعوام ظرف مسكن أسرتها: "كنا ننام زي علبة السردين"، حيث كانت تنام وأخواتها البنات في غرفة صغيرة، فيما ينام إخوتها الذكور في صالة صغيرة تتوسط البيت اصطلحت عليها "ممر" لصغر حجمها، فيما كانت غرفتهم مكدسة بالملابس والأثاث.
ولا تذكر الفتاة أنها ارتدت ملابس كما تحب دون قيود، حيث تقول إنها كانت تضطر لاقتناء ملابس فضفاضة طوال الوقت. لذلك، اضطرت للزواج في عمر الثامنة عشرة؛ رغبةً منها في التمتع بقليل من الاستقلالية، تقول، "كنت أريد أن أعيش في بيت كبير وواسع، وأنجب عددًا قليلًا من الأطفال كيلا يعيش أبنائي ما عشته".
يرى البعض أن ما ذهبت إليه "ندى" من طموح، يعد رفاهية صعبة المنال في ظل تدني مستوى الدخل وعجز أرباب الأسر عن توفير مساكن ذات مساحة متوسطة وكبيرة لاستيعاب أفراد، ولذلك لجأ الكثير من المواطنين للتوسع الرأسي في المسكن بشكل يصطلح عليه "علب السردين".
يتنافى هذا الواقع مع ما نصّ عليه القانون الفلسطيني الأساسي الذي كفِل للمواطنين في المادة (23) "المسكن الملائم باعتباره حقًا لكل مواطن، وتسعى السلطة الوطنية لتأمين المسكن لمن لا مأوى له"؛ وفقًا للمحامي مصطفى إبراهيم الذي أكد على أن الكثير من السكان يعانون من عدم توفر مساكن مستقلة.
هذه المشكلة تؤرق محمد جابر (23 عامًا) أيضًا، وهو الابن الأكبر في أسرته المكونة من ثمانية أفراد، متزوج ولديه طفلين، فيما يشاركه السكن والديه وخمسة أشقاء (أربعة إناث وذكر)، حيث لا يتمتع الشاب بغرفة مستقلة وينام غالبيتهم في وحدة سكنية مسقوفة بالصفيح، غير آمنة ولا يتوفر فيها أثاث.
يقول جابر، "هذه المعيشة من أكثر الأشياء المظلمة في حياتي، لا أستطيع استقبال أصدقائي، أحاول دخول البيت بعد الساعة 12 ليلًا عندما ينام المعظم فالبيت في ساعات النهار لا يمكن دخوله، لا خصوصية ولا استقلالية ولا ركن خاص بي".
ومن الواضح أن هذه الظروف تلقي بظلال سلبية على الأفراد. وتؤكد المختصة النفسية خلود الأزبط على أن عدم الفصل بين الأبناء في المبيت وفي غرف مستقلة، يؤثر بشكل كبير على نمو وفكر وسلوك الأطفال منذ أن ينشئوا و حتى يكبروا.
وقالت المختصة الأزبط إنه عندما ينشأ الطفل في أسرةٍ سوية قائمة على الإيجابية والتربية والأخلاق وتراعي قيم المجتمع، فإنّ ذلك ينعكس بالإيجاب على سلوكياته، في الحي، المدرسة، الجامعة، والمجتمع عامة. وعلى النقيض منه، إذا نشئ آخر في أسرة غير سوية سواء كان اضطرارًا أو اختيارًا فإنّه ينشئ مشوّهًا فكريًا ونفسيًا.
كما شددت على ضرورة ألا يتم تجاهل الفصل بين الأطفال في غرف النوم منذ الصغر؛ تجنبًا لحدوث مشاكل تعاني منها الأسرة بمجملها مستقبلاً. وفي هذا الإطار ذكرت أهم الاعتبارات التي يجب الأخذ بها، وهي الفارق في السن، والنوع الاجتماعي، فلكل واحدٍ منه اهتماماته، خصائصه، سلوكه، وقت نومه، وقت دراسته، تكوينه، خصوصيته، حسبما قالت.
ما يعيشه محمد وندى والكثير من الشبان/ات مثله في قطاع غزة، الذين يضطرون إلى المبيت في ركن على سطح البيت، أو في ممر هامشي صغير وسط البيت، ومنهم مَن يظلّ يتشارك مع أخواته الغرفة الوحيدة ذاتها لسنٍ متقدمة؛ يتنافى بشدّة مع ما دعا إليه الدين الإسلامي على اعتبار أن المجتمع الفلسطيني هو مجتمع إسلامي محافظ بفطرته.
في هذا السياق، أشار الداعية مصطفى القيشاوي إلى أن التفريق بين الأبناء في المضاجع هو سنّة نبوية مؤكدة شرعًا، ويُقصد بها أن ينفرد كل واحد من الأبناء بفراشٍ مستقل من عمر 7 سنوات.
وأكّد الداعية القيشاوي على أنه لا يجوز شرعًا نوم الإخوة تحت غطاءٍ واحد وعلى فراش واحد سواء كانوا ذكرين أو أنثيين أو ذكر وأنثى. ودعا أن يفرق الآباء بين أبنائهم في غرفٍ مستقلة في حال كان لديهم متسع، فيصبح هناك غرفة للبنات وأخرى للأولاد، فيما ينام كل فرد لوحده داخل الغرفة.
في هذا الإطار، استفسرت "آخر قصّة" من وزارة الأشغال العامة والإسكان، عن مدى مراعاة مساحة الشقق السكنية بعد الإعمار لعدد أفراد الأسرة واختلاف نوعهم الاجتماعي، وقالت وزارة الأشغال "نقوم بتوسعة الوحدات السكنية عندما نرشحها لجهات إعادة الإعمار حسب عدد أفراد الأسرة، وذلك بحدٍّ أدنى 60 م2 لعدد 2 من الأفراد، وحدٍّ أعلى 140 م2 لعدد أكبر من 12 فردًا".
لكن يبدو أن جهود الحكومة ما تزال تراوح مكانها وسط العجز الإسكاني الكبير في قطاع غزة، وتجاهل تأثيرات ضيق المساحة على العائلات والأفراد على حدٍ سواء، إذ يتطلب ذلك توفير حلول سكنية مناسبة والتركيز على إيجاد بيئة سكنية صحية ومستقرة تساعد الأسر على تحقيق الفصل بين الأبناء وتعزز خصوصيتهم وتطورهم الشامل.
كما يجب على الجميع، سواء الحكومات المحلية أو المجتمع المدني، أن يعملوا سويًا لتوفير الحلول المناسبة لهذه المشكلة، حتى يتمكن الأطفال والشباب من النمو والازدهار في بيئة تلبي احتياجاتهم الأساسية وتساعدهم على تحقيق طموحاتهم في المستقبل.
عجز في الوحدات السكنية بغزة