أجيال كبرت لم ترَ دور العرض: أين السينما؟

أجيال كبرت لم ترَ دور العرض: أين السينما؟

قاعة كبيرة مكشوفة بلا سقف، كراسٍ حمراء اللون، شاشة عرض ضخمة. وبالخارج يصطف طابور طويل عند شُباك التذاكر في سينما الجلاء وسط مدينة غزة يدفع "قرشين ونصف"، ويأتي ليلًا لحضور عرض فيلمٍ مصري في أجواءٍ حماسية حينًا وشاعرية أحيانًا أُخر. 

تصف السبعينية مريم محمد، أول مرة وطأت قدماها السينما والعرض الأول الذي حضرته لفيلم معبودة الجماهير وهي بعمر 12 عامًا مع قريناتها من بنات أعمامها، في الستينيات من القرن الماضي، عندما جمّعوا تكلفة تذاكره من "عيدياتهن"، تغمرهن مشاعر الانبهار والدهشة وهُن يدخلن القاعة ولا يستطعن كبح الفرح في صدورهن.

الثقافة المصرية كانت سائدة في قطاع غزة بحكم الجوار وخضوعه في خمسينات القرن الماضي للإدارة المصرية، الحاجة مريم تقول "حينها كانت الأفلام المصرية بالأسود والأبيض هي المعروضة في كل دور السينما بالقطاع، وكان الفنانون المصريون كعادل إمام، نبيلة عبيد، صباح، يأتون إلى غزة في تلك الحقبة".

في الخمسينيات وأوائل الستينيات كانت تُعد السينما المتنفس الوحيد لأهالي قطاع غزة، نظرًا لقلّة توفر وسائل الإعلام من راديو وتليفزيون التي كانت غالبًا لا تتوفر في البيوت؛ بل يجدها الناس في المقاهي وأماكن تجمّعات أهالي الحي والمنطقة.

ويعكس حديث الحاجة مريم، فترة من الانفتاح الثقافي والحرية التي منحها المجتمع والأهالي للفتيات بما يسمح لهن الخروج بمفردهن لحضور فيلمٍ ذات مساء، في ذلك الوقت الذي عرف فيه قطاع غزة السينما مبكرًا (الأربعينيات من القرن الماضي)؛ لقربه الجغرافي من جمهورية مصر وهي التي كانت رائدة في السينما والمسرح عربيًا. 

وشهدت الخمسينيات ازدهارًا للسينما في القطاع فانتشرت الدور بين المحافظات، ووصلت إلى عشر دور عرض، ست منها في مدينة غزة (سينما السامر، والجلاء، والنصر، وعامر، والنهضة، والشاطئ) وثلاث في مدينة رفح (سينما صابرين، والحرية، والسلام)، وسينما الحرية أيضًا في مدينة خانيونس.

لكن ذلك الحال، لم يدم طويلًا وبدأت الأوضاع السياسية تعكس ظلالها على الواقع الاجتماعي والثقافي في القطاع، خاصّة مع نكسة عام 1967 التي تبعها ركود كبير لدور السينما في غزة وانشغال الناس بالظروف الإنسانية والاقتصادية الحاصلة. 

وهكذا ظلّ المشهد السينمائي ما بين نهضة وركود وصولًا إلى انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 التي أدت إلى إغلاق السينما أبوابها. وبقدوم السلطة الفلسطينية عام 1994 عاد الأمر متواترًا ما بين تذبذب وإغلاق إذ افتتحت بعض دور عرض السينما لوقتٍ قصير وسرعان ما أغلقت تحت وطأة وسطوة تأثير الأحزاب الإسلامية على الناس، إلى أن انتهت تمامًا في ظلِ قيودٍ مجتمعية وسياسية فرضت نفسها.

وفي رواية الحاجة مريم، تظهر المفارقة أنّ حفيدتها التي تحمل اسمها كانت تلمع عيناها عندما تتحدث الجدة عن مغامراتها مع قريناتها في الماضي، فبدا لها ماضي جدّتها حلمًا صعب المنال، لأنه وعلى الرغم من أن الفتاة على أشراف العشرينيات من عمرها، لكنها لم ترَ دارًا للسينما طوال سنوات عمرها في القطاع.

أجيال بأكملها كبرت على ذات الحال في واقعٍ يتسم بانغلاق وتردٍ ثقافي هائل، جزء منه يتعلق بالقيود التي يفرضها الاحتلال والتي تحدّ من التفاعل مع المحافل الثقافية الخارجية، وجزء آخر ارتبط بالتوجه الديني الذي يطغى على إدارة الحكم في قطاع غزة منذ 17 عاماً.

هذا الأمر كان دافعًا لتعطش الكثير من الشبان الغزيين الذين تجاوز جزء كبير منهم الثلاثينيات من عمره دون أن يحضر فيلمًا سينمائيًا أو يدخل دار عرض للسينما، وهو ما ظهر بشدّة في رغبات الكثير منهم عندما خرجوا من القطاع. 

مؤخرًا سافرت مريم الحفيدة إلى أوروبا مع عائلتها وكان طلبها الأول أن ترى السينما كجدّتها، وبعد حضورها عرض سينمائي لأول مرة في الغربة هاتفت جدتها فرحا وقالت: "أخيرًا رأيت السينما مثلك يا جدتي". 

33 سنة... على مشهد نهاية دور السينما في غزة | اندبندنت عربية

تأسف مريم لواقع قطاع غزة، مشيرةً لأهمية السينما في نشر الوعي والثقافة والتعريف بالقضية الفلسطينية للعالم الخارجي، وقالت: "عشت بين الأجانب، وأدركتُ أهمية السينما وتأثيرها القوي في عكس ثقافة البلاد وتحريك المشاعر وإحداث التعاطف والتغيير تجاه مختلف القضايا".

وعلى الرغم من هذا الكمّ من الإحباط المسيطر على الشباب نتيجة غياب دور السنيما، لكن محاولاتهم لم تتوقف من أجل إحياء السينما من جديد. نتيجةً لذلك ظهرت العديد من المبادرات الشبابية، منها "سينما الشارع" وهي مبادرة انطلقت عام 2021، في حيي الدرج والتفاح شرق مدينة غزة، الذين يتسمان بالاكتظاظ والتهميش. وهدفت المبادرة إلى إشراك الأهالي في إحداث التغيير على صعيد الحيّين وفي أنشطة المبادرة التي تنوّعت ما بين عروض أفلام وأيام ترفيهية للأطفال، وجلسات حوار ونقاش، عدا عن التدريب للشباب.

واستمرت الأنشطة ما بين عروض أفلام خارجية بالشوارع، وعروض داخلية في مركز "هولست" الثقافي التابع لبلدية غزة. قال أحد أعضاء المبادرة محمد ياغي، إنّ المبادرة التي نُفذت بدعمٍ من مؤسسة عبد المحسن القطَّان عرضت أفلام منوعة بين اجتماعية، ثقافية، أنيميشن، وعكست الواقع الاجتماعي والتاريخي للقطاع، كما سلطت الضوء على قضاياه ومشكلاته. وهي من إنتاجٍ أجنبي، لأن الإنتاج المحلي للأفلام شحيح، وفق قوله.

من جهته، يعتبر المخرج والكاتب أكرم عجور ما يجرى على الأرض من مبادرات في إطار "السينما"، وعرض للأفلام خطوات متتابعة نحو السينما، ما هي إلا "محاكاة للسينما"، لافتقاد غزة إلى أماكن العرض. 

وقال عجور إن الثقافة المجتمعية المُحافظة في قطاع غزة وعادات أهله وتقاليده واحدة من أهم القيود على حرية السينما. مضيفا "بحكم أن قطاع غزة مجتمع معروف بعاداته وتقاليده، فإن هذا الأمر يفرض نفسه أيضًا على المخرجين وكتاب السيناريو وإنتاج الأفلام عموماً".

يردف الكاتب والمخرج الثلاثيني في حديثٍ لـ "آخر قصّة"، "التيار الإسلامي ليس المعيق الوحيد، صحيح أن حماس في بداية حكمها شكّلت عائقًا أمام حركة السينما، وما تزال الرقابة الحكومية موجودة لكنها في السنوات الأخيرة بدأت تسمح بتنفيذ الأفلام وتتخذ خطوات إيجابية تجاه قطاع السينما منها تشكيل لجان من كُتاب، ومخرجين، وفنانين، في وزارة الثقافة".

ويعد مهرجان السجادة الحمراء، واحدًا من أبرز الأعمال السينمائية في غزة، وهو مهرجان سنويً أُطلِق لدعم السينما عام 2015م، ويركز على الجوانب الإنسانية، والحقوق، والقضايا المجتمعية. فيما يُفتَتح كل سنة تحت شعار مختلف، إذ حملت الدورة الأولى شعارًا "صرخة من بين البيوت المدمرة"، وحملت النسخة الثانية عنوان "بدنا نعيش"، أما الثالثة فكان شعارها "بدنا نتنفس".

لكن تلك الجهود ما تزل تراها المخرجة ريما محمود وهي مخرجة فلسطينية شابة من غزة، "غير كافية"، وقالت إنّ الإنتاج السينمائي يفتقد إلى تمويل ودعم حكومي داخل القطاع. وهو ما أكّد عليه عجور عندما قال إنَّ النمو في السينما ما يزال ليس بالقدر المطلوب، على نقيض الدراما التلفزيونية التي نشطت في إنتاج مسلسلات في الآونة الأخيرة؛ ويرجع ذلك لتبني القنوات التلفزيونية المسيسة لنهج استخدام الإعلام للدراما في تحقيق أهدافٍ معينة.

ويفتقد القطاع بشكلٍ أساسي إلى وجود مدارس أو معاهد متخصصة في تعليم السينما. بحسب عجور الذي أشار أيضًا إلى أن التجاذبات السياسية بين الأحزاب المتعددة هي من معيقات نمو السينما، إلى جانب ضغوطات الرقابة الحكومية، عدا عن قلّة توفر معدات الإنتاج والتصوير، وأخيرًا غياب الوعي الكامل بأهمية السينما في الثقافة المجتمعية والاقتصاد المحلي كمصدر للإيرادات ومصدر للتوظيف وخلق فرص العمل. 

نتيجة لذلك، يرى عجور أنّ أفق تطور وازدهار السينما في قطاع غزة ما يزال ضبابيًا وغير واضح، مشيرًا إلى أنه من الصعب إنتاج سينما بالمفهوم الحقيقي، في ظلّ التحدّيات والواقع الذي يفرض نفسه داخل قطاع غزة.